عبدالرحمن مامان والرحيل المر

توفيق الطيب البشير

يقول الله تعالى ” كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” صدق الله العظيم
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ” إنما الصبر عند الصدمة الأولى”

سادتي … ليس هناك أمر أصعب واشق من الكتابة عن الفراق إلا الفراق نفسه ، وليس كل الفراق فراق ، فهناك من نفارقه ونأمل أن يعود وهناك من نفارقه فلا يبقى بعده أمل للعودة .. وبين هؤلاء وأولئك أناس ترسم الصدمة بفراقهم سحباً كثيفة من الأحزان والآلام، وتمتلئ النفس المحزونة بعذابات وجراحات وجزع… وكأنما أمثال هؤلاء لا يتركون للنفس قلباً يستفيق ولا روحاً تحلق.
مامان هذا الرجل النوعي … متعدد المواهب .. كثير المناقب … هذا الرجل الشهم المثالي الهميم، ذو الأخلاق العالية والصفات النادرة .. هذا الرجل القدوة .. ليس كسائر الذين افتقدناهم .. وهم على كثرتهم وعميق أثرهم لم يزعزعوا صبرنا ويضعفوا عزمنا بالقدر الذي فعله هذا الرجل الضخم … الرجل الذي يخلو تاريخه من عداء ويسلم سجله من كل عيب!.

عبدالرحمن محمد صالح مامان … هذا الرجل الذي أينما وقع نفع .. وحيثما أجاب أصاب ! لا تكاد تراه إلا وهو مبتسم . لا أذكر أين كان أول لقائي به لكنني بالطبع أعرفه منذ أن تغنى باسمه الكبار وذاع ذكره في الأمصار. وكثيراً ما كلمني عنه أخي وصديقي الاستاذ السر عثمان، وحينما وجهت وجهي تلقاء الرياض كان الاستاذ السر يقول لي يكفي أن فيها “مامان” . أرجح أنني التقيته لأول مرة في دكان الراحل عبدالله محمد خير في البطحاء حيث كان هذا المكان العزيز موطن المبدعين بجميع مشاربهم. لم أكن حينذاك قد تجاوزت أسبوعي الأول بالمملكة، وكان هو كذلك حديث عهد بالرياض، فقد جاء من جدة ليعمل في قسم العلاقات العامة ببنك الرياض.

نعم التقينا صدفة لكن تصادقنا عنوة .. لم نفترق بعد ذلك لا صيفاً ولا شتاء … كانت محادثاتي الهاتفية معه من أطول المحادثات وقتاً، وأعظمها فائدة.. وكنت عندما أزوره في البيت أرى ذلك الطنبور العريق على الجدار فأحسبه واحداً من الآثار التي يحتفظ بها بحكم تفرده .. ونظرته المتميزة للأشياء الثمينة ، ولكن نقل إلى سمعي أحد الأصدقاء أن هذا الرجل هو أفضل من يعزف على آلة الطنبور فكانت دهشتي أن عزف لي يالمشتنهك في غيابك بالنا بيك ضم انشغل والنوم وراك يبقالنا شر فارق عيونا خلاس رحل فتحدث الطنبور بالقوة نفسها التي نطقت بها تلكم الكلمات، ثم أردف ذلك بأغنية عذاب الغربة أضناني ومتين يا بلسمي الشافي .. متين أرجع والاقيكي وأنوم في حضنك الدافي … وعزف معها مقاطع أخرى من أغاني الأستاذ محمد سعيد دفع الله والراحل حسن الدابي لم تكن أقل براعة وتميزاً … حينها أدركت أنني أمام رجل جمع بين جمال الموهبة وموهبة الجمال ! .

في بداية العام 2000م، اجتمعنا شخصي والاستاذ سيد أحمد المصباح والمهندس علي عثمان والراحل مامان، واتفقنا على إنشاء شركة تعمل في مجال الاستشارات وفي غضون يومين كان الراحل مامان قد أعد لنا عرضاً في منتهى الدقة والمهنية، وقال هذه “مسودة للمراجعة” فكان الإجماع قد انعقد على أنها نسخة نهائية لا تحتاج إلى حذف ولا إضافة ! تلك الشركة لم تر النور لكنها كانت حلما يرافقنا منذ ذلك الحين وحتى رحل عنا مهندسها وفارس أحلامها يرحمه الله.

في العام 2009 م ، حضرتني فكرة إنشاء منتدى التوثيق، فكأن أول من خطر ببالي هو أخي مامان … أخبرته بالهاتف فكبر وصاح قائلاً ابدأ اليوم ولا تتأخر وأنا أرافقك في التنفيذ! وكان منذ أن أنشأنا المنتدى ثم تطور إلى موسوعة التوثيق الشامل، وإلى أن توفاه الله عضواً رئيساً في هيئتها الاستشارية وأحد قبطانها المتميزين.

اشترك الراحل مامان في سودانيزاونلاين منذ تأسيسها، وفي منتدى القرير ومنتدى البركل وفي سودانيات وفي موسوعة التوثيق ، وكتب عشرات بل مئات المواضيع هنا وهناك لكنه لم يشارك قط في موضوع لا يستحق، ولا كتب قط موضوعاً لا يستحق.. لم يكن يكتب مجاملة ولا من أجل رفع عدد المشاركات كما يفعل كثيرون .. كان ينتقي نخباً ويختار نخباً ويكتب بمهنية ومسئولية .. وكان أكثر ما يشغل تفكيره الأخبار التي تأتي عن فقير مظلوم أو طفل متميز أو امرأة مسكينة لذا فتجد معظم كتاباته عن الطلاب المتفوقين وستات الشاي وعظماء القرية الذين ضحوا بحياتهم من أجل تلك الأصقاع .. ولم يكتف مامان بهذا بل كان أكثر ما يشغله هو المجتمع السوداني والاقتصاد السوداني والحياة السودانية، ومآلاتها ومستقبلها . وأما الحديث عن البلد وأهلها ومجدها وسيرتها وتراثها وحضاراتها فكان له نصيب الأسد في أقواله وأفعاله ومجالس أنسه.

عمل مامان سنوات طويلة في شركة عبداللطيف جميل وخرج منها بتجربة ناجحة مكنته من التفوق في مجال المبيعات، ثم التحق ببنك الرياض وخرج منه بتجربة متميزة مكنته من التفوق في مجال العلاقات العامة، ثم قرر أن يعمل بعيداً عن قيود الوظيفة فقرر مصمماً العمل مع شركة فوريفر التي تعمل عبر التسويق الشبكي فكان له أن حقق نجاحات كبيرة وعالمية، وكان دائما يقول لي عبارته الجميلة Think big وبالفعل فإن مامان لم يكن بحجم الوظيفة التي تركها ولا بحجم القيود التي تفرضها، بل كان أكبر بكثير من مكتب وطاولة وحاسب وطابعة !

عملنا سوياً في أكثر من استشارة، هو يقدم خطط العمل والتسويق، وأنا أقدم التحليل المالي ودراسات الجدوى للمشاريع .. وأذكر أن مستثمراً كويتياً جاء يريد الاستثمار في المملكة وطلب منا عمل خطة تسويقية في مجال المسالخ .. اتصلت بمامان وشرحت له حاجتنا لمستشار تسويق يعد خطة العمل وخطة التسويق ، فوافق على العمل معنا في الفريق، وكانت هذه المرة الخامسة التي نستضيفه معنا لعمل خطة عمل أو خطة استراتيجية أو خطة تسويقية .. أعد مامان خطة العمل والخطة التسويقية فقدمناهما للمستثمر الذي أقسم أنه لم ير في حياته عملاً أعظم من هذا العمل ، وقال إنه سبق له التعامل مع شركات أجنبية ولم تقدم له ما أراد مثل ما قدم له الراحل مامان … وعلى ما أصابه من انبهار كلف المكتب فوراً بإعداد دراسة الجدوى للمشروع والتي كانت من نصيبي! فقلت له نحن بي جاه الملوك نلوك! فأي إبداع وأي تميز أعظم من هذا ؟ بل وأي شهادة أعظم من هذه ؟ .

مات مامان! لكنه لم يكن يعلم أن الله جلت قدرته قد حقق له أعظم أمنياته، وهو أن يدفن في السودان! ما كنت أتوقع أن مامان سيرتاح يوماً في قبره إذا دفن خارج الوطن ، وكيف وهو لا يعرف شيئاً أغلى من الوطن ولا يحب شيئاً كحبه للوطن لذا سخر الله له رحلة العلاج في القاهرة بعد أن شرعت معه في تدبير السفر للهند, فسخر الله له الرجل الشهم الصديق الوفي السفير عبدالمحمود عبدالحليم الذي أصر على تحويل المسار للقاهرة , ولولا ذلك لكان من أموات مقبرة أم الحمام أو ضواحي بومبي ! وقد اختصته أرادة الله بموت في يوم الجمعة ودفن في وطنه الذي يعشقه! وهاتان نعمتان ختم الله بهما حياته الطيبة.

لا أستطيع القول أكثر من هذا فنحن لا نزال في عمق الصدمة، ولابد لي من عودة ، لكنني اكتفي ههنا وأدعو الله أن يتغمد حبيبنا وصديقنا ورفيق عمرنا عبدالرحمن مامان بواسع رحمته وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يلهمنا وأهله وأهل بيته وأحبابه الصبر الجميل .. إنا لله وإنا إليه راجعون​

هذه المقالة كُتبت في التصنيف مقال عام. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.