السرعثمان : من نداء العشق إلى عشق النداء

توفيق الطيب البشير

هذا البحث كتبته في العام 2010 لموسوعة التوثيق الشامل التي ابتلينا بفقدها الجلل وعندما بحث عنه في الأثير لم أجده كاملا ولكن وجدت معظمه فأسانشره ناقصا بعض الشيء من باب ما لا يدرك كله لا يترك جله..

الفنان المبدع حيثما حل قطاره والمطرب كلما دق طاره والمزخرف لوحة عشقه كلما لاح في الأفق إطاره.. الاستاذ الشاعر السر عثمان الطيب دوحة لا يعرف ظلها الرقراق ولا يخلف زرعها المطر .. تمنيت أن يكتب عنه في هذه المساحة غير شخصي الضعيف وذلك لأسباب قد يطول سردها، وربما كان من أهمها أنه صديق حميم وابن أخ كريم، لذا فقد يصيب كلامي كثير من الجرح والانحياز وثانيها أنني قدمت بحثاً طويلاً قبل فترة طويلة أسميته الرمز والبيان في أوزان السر عثمان وقد جهزته في العام 1990 ليكون كتاباً يجد مكانه بين أضابير المكتبة العربية ولكن كما يكون لكل أجل كتاب يكون لكل كتاب أجل.

لم يكن في نيتي في الوقت الراهن أن أكتب شيئاً جديداً عن السر عثمان رغم أن ما كتبه بعد بحثي هذا من أشعار وأسمار يفوق كثيراً ما وقفت عنده أثناء بحثى الأول ويزيد عنه جمالاً وبهاء .. ولا أتوقع أن أخوض فيما أحب من تحليل لجميل أشعاره التي فاتها قطار بحثي الأول ولكن أمراً عجيباً استوقفني وشد انتباهي ولفت ناظري وأنا أدور حول مكتبته بعد أكثر من عشرين سنة كان حصادي فيها نيفاً وثمانين نصاً أورق واستوى على سوقه فأعجبني وأعجب القراء ممن يتذوقون هذا النوع من الشعر المكتسي بالخضرة والمتوشح بالجمال والنقاء..

لا أود أن أتحدث هنا عن السر عثمان الطيب فالجميع يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، شأنه في ذلك شأن كل مبدعي بلادي لا تكاد تخطئهم العين ولا يسلوهم الفؤاد ولا يتناساهم الفكر، همو كالمصابيح الوفية تضيء في جنح الظلام وتظل مضيئة حتى يدركها الموت الحق أينما كانت..

وعوداً على بدء فقد استوقفني في شعره ما جعلته عنواناً لهذا البحث !! وقد يلاحظ القارئ معي أن معظم قصائد السر ذات الطابع العاطفي أو الوطني أو قل السواد الأعظم منها تبدأ بحرف النداء “يا” أو يتخلل هذا النداء البيت الأول أو المقطع الأول منها وهو أمر أراه قد تفرد به واجتمع له حتى صارعلامة مميزة لأشعاره مثلما كان يفعل أدباؤنا المادحون من أمثال علي ود حليب وحاج الماحي والبرعي وغيرهم ممن يضعون اسماءهم في نهاية معظم مدائحهم ويسمونها “الختم”

ولو رجعنا إلى ديوان الشاعر السر عثمان أو قصائده المنتشرة في أوساط الفنانين الذين تغنوا له لوجدنا هذه المسألة واضحة بينة . ولكم بعض الأمثلة وسيعمد الكثيرون منكم إلى البحث المتعمد لاستخراج المزيد …

* شوفي الزمن يا يمة ساقني بعيد خلاس

* يا المشتهنك وفي غيابك بالنا بيك ضمة انشغل

* متين .. يا سحابة ؟؟ متين ألقَى حِـنِّـك ؟؟

* يا مرسى امان القلب التايه ليهو زمان أرويهـو حنـان يـا ارض النـيـل

* يا لون الجرف الـشارب خضرة لون الـزول الـسمح الخاتـف من لون الليمـون

* القـدم كان ليهـو رافع قاسـي فـرقـك يوم اوادع لو فضل في عمري ثانيه تاني لابد ليكي راجـع ليكي راجع يا بلادي

* جور زمنى العلي جنى باين فى عيونـي ضنـا شايل مـن قليبـي هنـا يا بلـدي البريـدك انـا

*يا حالبة من عينِي الدموع .. يا صالبة فوق وتري الرنين لا ليكي متمنّي الرجـــوع .. لا تاني عاودني الحنين

*يا نسمة كيف أخبار أهلنا وحيّنا أحكيلي..عاد ما باقي طوّلوا مِنّنا زي ما زمان طارنّهُن طَارنّنا زي ماب نشيلُن في القلوب..شايلنّنا

*طول عمرى بتمناك منى ورينى كيف القاك انا يا الفى الضلوع ساكن هنا جواى من كمين سنة

*في حمايا وفي ضرايا .. . استريحي .. واستجمي يا قريبة كما إخيتـي .. أفتديـك بالـروح ودمـي لا تــخــافـــي .. ولا تــهــمـــي

*ساقتنا الظروف يا صاح لـي دار العـذاب والغربـه فارقنا القرير نتباكـي احكـام الزمـن صـح صعبـه

*يـاغــايبـه … يـا حـاضــره يـا الـفى الفجــر تـســطع أنـوارك الـبــاهـــره عـــين الـفجــر راجــاك .. من كـم زمــن .. ســـاهــره

*آه ..يا اهه مالك دار تودرى عمرى بهدلتينى خليتينى دون الناس انوح وابكى نافد صبرى

ياليلـى يـا لـيـل يــا عنـيـد قـــالـــد مـــعــــاي طـــول صـبــري فـيــك مـدد مساحـات الحـزن جـواي

* يــاوطـــن لـبــيــك جـيــنــا جيـنـا قــوم لا حـيـلـك انـهــض يـــلا هـــاك قـالـدنـا .. قـــوي رغــم إنـــك كـــت معـضـعـض

* يا نجيمات دار تنومن ليش ونوم عيني شارد

* قام دون وداع ساب الاهل في سفرة لا زاد لا عدل يا صاحٍ .. وين قمري رحل؟

* يا جلابة الله …..يا جلابة الله يا جلابة جيدا جيتو ما شفتولى زول يا اخوانى ساعة للرحال شديتو

* يلا يا نيل يلا … دفق لينا كب خيراتك .. أدلق

* عقيدتي وديني إسلامي يا “شول” ليك مسيحيتك تراب سودانا لينا سوا

*ياالبنيي الفنجريي ياالشتيلة الشاربي من نفس النسيمات الندي

*تفضل أيها الساقى وخاطب انت اعماقى وقل لى ايها الساقى بحق شرابك الباقى امافي الكاس يروينى ؟؟ لتزهر كل افاقى؟؟

*قول واطربنى يا صداح علِّى من العذاب ارتاح

*يا اللأنك ..فى وجود الامكنة وفى خلود الازمنة متحكرة ومتمكنة

*يا طيفا صابحنى … بالله ماسينى اوعك تغيب يا طيف .. فد لحظة عن عينى

*قلبى ولهان .. قلبى يا ناس .. قبلو عاد وحيدو راح ضهب تاه .. كتر الآه .. دار يموت بى ريدو

*يا عيونك لما تضحك تضحك الدنيا وتزغرد

# الله يا خلايا لى قلبى الموجع حبى فارق تانى ما ظنيتو يرجع

# شِـبِّي ، هُوبْ .. يا نخلة .. شِـبِّي قومي طولِك أوعي ترخي العزمِ لحظةْ

شدِّي حيلِكْ

ضل الغيمة غش قليبى قال ينجم خت رحالوفات خلاهو ده الكان ظنو فى عز الهجير يرتالو عاد ورينى ليه يا غيمة؟ ماك عارفى السفر واحوالو؟ ولاَّ قليبى تحتك حالفي ما يطيبلو المقيل يحلالو ؟

يا مسافر وشاد رحالك يا حليـلك ولينا فالك

# يا الناسينا ..حبك في ربيع دنيانا شال نور تسقي الذكريات يا روحي شان يخضر لي يكبر

يا غـَـالي يا مـسـافِـر نـاوي الـرَّحـيـل بـاكِـــــرشَـــان خــاطـْـرَك الـغـَــالـي أدِّيــتـَــكْ الخـاطِــر

نص الليل والـليل كان هـاجع رامى هـديمك من فوق كتفـك يا العجـلانى وقاطعى الشارع

* ريشيل.. يــا بت كوري يا شامخة كالبركل.. وقمّة هرم نوري يا مهيرة من «تكساس» إنسانة.. يا بت ناس

* أمونة يا أمونة أمونة يا أمونة

* يا البكرة قايم قاصد ‍بلادي أغري التحايا من كل فؤادي

* يا كافي البلا يا حايْدَ المِحَنْ شيشَك . . يا زمن شيشَك .. يا زمن

* يا مواسم اخضراري في رجاك طال انتظاري لي تعالي وشوفي كيف الصيف سنين ساكن دياري.

هذه أربعون قصيدة يتصدر النداء طلعها النضيد ومثلها كثير لا أخال أنني سأحصيه عددا ، ولكن العرب تقول البعرة تدل على البعير والجزء يغني عن الكل ويبقى السؤال: هل ثمة حكمة من وراء هذا النداء؟ وهل النداء مقصود لذاته في أدبيات السر أم أنه مقدمة يسوقها مثلما كانت العرب تبكي على الأطلال ثم تتغلغل شيئاً فشيئاً في صلب الموضوع ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال هذه الصفحات المترامية الأطراف إن شاء الله تعالى …

من المنادى في أدب السر عثمان؟؟

إن الأمر لم يقتصر على كثرة إيراد حرف النداء فقط ولكن المنادى نفسه يتعدد ويتنوع عند السر بصورة تؤكد عمق الظاهرة وتعمدها في شعره فهو تارة ينادى الناس من حوله كأمه ومحبوبته واخوانه وعشيرته وتارة ينادي غير المحسوس كالنسمة والغيمة والنجوم وتارة ينادي الوطن وينادي الحرية وينادي الطيف وتارة ينادي قلبه ونفسه وأحاسيسه وخياله وكأن كل هذه الأشياء تعيش معه وتتعايش معه فيحدثها وتفهم قوله .

ومن ييتبع هذه الرسائ‍ل المدهشة التي يرسلها السرعثمان وهو ينادي هذه الأشياء يحس، وللوهلة الأولى، بأن هذا الشاعر قد صنع لنفسه عالماً خاصاً بناه بطين الإبداع وأثثه بفرش الجمال فهو يعيش وكأنه ملك في عالمه هذا يصدر التوجيهات ويعقد الجلسات ويرسل المراسيل ويستقبل الوفود ويقيم الاحتفالات مع هذا الشعب الذي يحيط به المحسوس منه وغير المحسوس وكل ذلك يأتي في لغة شعرية شفيفة وعبارات عصرية لطيفة ومعاني بديعة جزلة.

ولماذا ياء النداء تحديداً؟

من المعروف أن المنادى في لغة العرب ينادى بتسعة أساليب خمسة منها لغير المعرف بأل، وأربعة مختصة بالأسماء المعرفة بأل . هذه الأساليب هي :

الياء : وهي حرف يستعمل لنداء الجميع ….. القريب والبعيد وهي أم حروف النداء وقال أبو حيان إنها أعمها جميعاً.

الهمزة : حرف يستعمل لنداء القريب .

أيْ : حرف لنداء القريب أيضاً .

أيا : يستعمل لنداء البعيد .

هيا : يستعمل لنداء البعيد أيضا.

أيها وأيتها وياهذا وياهذه وتستخدم مع ما فيه أل .

ومن يقرأ نداءات السر عثمان يلاحظ أنها تكاد ترتكز على ياء النداء فقط وهي كما ذكرنا أم حروف النداء. ومردُّ هذا أمران حسب نظرتي للموضوع :

الأمر الأول: أن الشارع السوداني عموماً لا يستخدم من أدوات النداء إلا الياء والهمزة في أغلب الأحيان، مثل يا زول وآزول والثانية دائما تكون في مواضع العجب والانفعال أكثر من كونها للنداء، فمثلاً عندما تسأل شخصاً عن قدرته في عمل شيء ما فيقول لك آ زول! أي أن قدرته ليس فيها شك وليست موضع نقاش. وعندما تطأ قدمك قدم شخص بغير قصد فتؤلمه فيصيح قائلاً “آ زول انت ما قعد تشوف؟؟ وهكذا .. أما النداء المحض فيغلب فيه استخدام الياء دون غيرها. ومن الطريف أن أهلنا في السودان يستخدمون الياء مع المعرف بأل رغم أن ذلك ممتنع في لغة العرب الأم ، فلا يصح أن تقول يا الناس أو يا الرجال وإنما تقول يا أيها الناس ويا أيها الرجال ولا يجوز استخدامها ٌإلا مع لفظ الجلالة كقولك يا الله واستثناءات أخرى قليلة . أما في العامية السودانية فمن الطبيعي أن تقول يا المدلل أو يا الخدرة ليمونة وهكذا . وكذلك نلمح إلي استخدامهم هيا للبعيد على الطريقة السودانية فيقولون يا علي هوي وأحياناً تكون للتهديد أو التنبيه مثل يا زول هوي!! أو آ جنا هوي !!!

الأمر الثاني : أن يا النداء لها خاصية نداء القريب والبعيد، ولذلك فقد أغنتنا نحن السودانيين عن غيرها وخاصة أنها ارتبطت بحديث العاطفة الأبوية منذ طفولة كل منا الباكرة فتجد الآم والأب يقولان لولدهما في كل الأحوال يا ولدي وتقول النساء يا ود بطني وفي كثير من الأحوال يا وليدي ويا ود حشاى وهكذا حتى في أصعب الأحوال.

وقد قسم النحويون المنادى إلى مبنى على ما يرفع به ومنصوب ومرفوع على أحوال وأقوال . وجاءوا بأمثلة على هاتين الصيغتين (البناء والإعراب جوازاً ووجوباً) فقالوا يكون المنادى علماً مفرداً كيا خالد ونكرة مقصودة كيا رجلاً علمني السباحة وقالوا يكون نكرة غير مقصودة ويكون مضافاً وشبيهاً بالمضاف .

والذي يتتبع نداءت السر عثمان يجده قد تناول كل هذه الأنواع وفي مواطن عديدة منها :

* وا شري يا زينوبة ولدك في دروب الشوق همل

* يا راقداً قدام عيوني نهر عسل

* يا لون الجرف الشايل خدرة لون الزول

* يا مواسم اخضراري في رجاك طال انتظاري

ولم يكتف بهذه الاستخدامات القياسية بل استخدم أيضاً الاستثناءات الواردة بشأن ياء النداء وأخواتها في مواضع عديدة. ومن الاستخدامات الاستثنائية لياء النداء في شعر السر استخدامه يا النداء مع المعرف بأل مثل يا البكرة قايم وهذه تجوز في لغة العرب على الحكاية كقولك استثناء يا التي قامت ومثلها يا العجلاني وقاطعي الشارع .

مجموعة المنادى الأولى:

قال لنا النحاة إن النداء هو طلب الإقبال من المخاطب بأداة من أدواته وهو كذلك في الحالات المعتادة، أما في الشعر فلذلك شأن آخر.. فالشاعر لا يقصد طلب إقبال المخاطب وإنما يرمي إلي التفاتته والتفاتة من يكونون على لغة إياك أعني فاسمعي يا جارة .

والسر عثمان واحد من هؤلاء الشعراء الذين يقصدون معاني ومرامي كثيرة من نداءاتهم . والنداء معروف ومشهور في الشعر العربي كله على مختلف العصور والأمصار ولكنه في شعرنا السوداني أظهر وأوقع في نفوسنا انظر إلى التيجاني يوسف بشير وهو يخاطب النيل

أَنْتَ يَا نِـيلُ يا سَـلِـيلَ الـفَرَادِيـسِ

نـَبِــيــلٌ مُوَفَّــــقٌ فـي مَـــسَــابِـكْ

بَيْنَ أَوْفَـاضِـــكَ الْـجَــلالُ فمَرْحَى

بالْجَـــلالِ الـمُفِيـضِ مِن أَنْسَــابِك

وانظر إلى هذا العجب العجاب في مخاطبة المجذوب للذة ليل المولد !!

هو سوق (الزلعة) وبه طبل وبوق من صراخ الرغبة

حفلت دولته في (حلة) سلبت كل العيون والظنون

كيف لا يا لذة الليل ويا أم الفتون

فالمنادى هنا لا يرتجى إقباله ولكن في ندائه لذة قد تلفت الانتباه !! وشاعرنا السر ينادي كل من يحيط به من محسوس وغير محسوس، ولكنه يتدرج في نداءاته بحسب الحال والمآل. فهو لا يقصد النداء لذاته وإنما يقصد الاستجداء أحياناً وطلب المساعدة المعنوية أحياناً واستدرار العواطف في أحايين كثيرة وفي الكثير الغالب يطلب جلب الإنتباه وشحذ الأنظار لرؤية ما يكون فيه من حال ومآل .

ويمكن تقسيم المنادى في شعر السر إلى مجموعات كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، وأولى هذه المجموعات التى يتعزى بها شاعرنا نداء الذوات ولعل أمه زينب كانت صاحبة النصيب الأوفي من هذا الضرب من النداء…

شوفي الزمن يا يمه ساقني بعيد خلاص

دردرني واتغربت واتبهدلت وريني الخلاص

ساقني القدر منك بعيد لأزايا كاس جرعني كاس

بدأ الشاعر يحكي لأمه مصابه بعد أن فارقها وكيف أن الزمان أتي بنوه في شبيبته فسرهم وجاء هو ومن معه على الهرم !! لكن ماذا ستفعل زينوبة المسكينة وقد اختار هو البعاد وطلب منها الحل!! ومن المظلوم فيهما ؟ أهو الذي ابتعد عنها فأصابه ما أصابه أم هي التي ولدته وهناً على وهن وفقدته بعداً على بعد؟؟ إن حقيقة النداء ههنا اعتذار منه على وجه لطيف، وليس بين الجانييْن مذنب.

يا يمه يا فيض الحنان الما كمل

يا يمه يا بدري البشع دايماً يهل

يا يمه يا نــــــــــــــــــور الصباح وكتين يطل

وآشري يا زينوبة ولدك في بحور الشوق كتل

محـــــــــــــروم من الحب والمحنة وراك همل

يا يمة يا بحــر المودة وكت يفيض

يا يمة يا شـــعلة أمل زادت وميض

يا يمة يا عنقود كلام منظوم قريض

يا يمــــه يا نغماً حنين بالشوق يرن

وأفكــــــــــاري فيــــهو بيرتعن …

دمعــــــــــــــــــــــاتي شانو بينزلن

هنا يتخذ النداء معنى جديداً مستوحى من الفكرة التي سيطرت عليه وعلى شعوره المتقد وهي احساسه بذنب ما … نعم كل منا يحس ذلك الاحساس عندما يرحل بعيداً عن داره وتهوي به الريح في مكان سحيق !! يحس وكأنه قصر في حق أمه التي لا تكاد تحتمل فراقه ! فيبدأ في تبرير الصورة … الصورة التي جعلته بعيداً عنها فيعدد مآثرها تمهيداً لدفع نية البعاد عن كاهله !! ويعدد حاجته الماسة إلي قربه منها فيبدأ بذكر الحنان الذي لم يتشبع منه بعد، ونوره الذي لا تخفيه الأيام بجانبها كما تفعل في البدر الحقيقي، وضوء صباحه الأبدي حين تحضنه في كنفها، وشوقه الذي أناخ بعيره وأشعل سعيره !! ثم يستنجد بها لتعيد إليه كل هذا الذي فقده ببعده عنها !! ومرة أخري يجي النداء ههنا تحسراً منه على وجه لطيف، وليس بين الجانييْن مذنب.

والأم مصدر للعاطفة مطلقاً ولذلك نجدها تتصدر أولويات العواطف لدى معظم شعرائنا في السودان. ولم يخل ديوان شعر سوداني من ثمة تلميح أو تصريح للأم الحنينة ملهمة الأحاسيس النبيلة. وها هو الشاعر المبدع محجوب شريف عندما اشتد به الضيق في السجن تغنى بأمه مريم :

يا والدة يامريــــم

يا عامرة حنيـــــة

أنا عندي زيك كم

يا طيبة النيــــــة

مشتاق وما بندم

إصبري شـــــوية

يا والدة يا مريـم

ماني الوليد العاق

لا خنت لا سـراق

والعسكري الفراق

بين قلبك الساساق

وبيني هو البنــدم

وهنا يتبدى لنا نفس الشعور والتوجه والتودد والتبرير عند منعطف الفراق ونفق الهزيمة، مع اختلاف المواقف وتباعد الأحوال ، فتشتد الحاجة إلى حنان الأم وحنينها ودعائها ويزيد الهاجس بدفع النية عن فراقها لتقترن الجريمة بهذا الزمن الذي لا يرحم !!

أما  المحورالثاني في مجموعة النداء الأولى  فهي المحبوبة وهي لب موضوعه ورأس رمح البديع في شعره، فهو يتفنن في مناداتها ويتلون في مخاطبتها ويتقن الاختفاء وراء همومه ومعاناته من خلال هذا النداء البديع . 

وللسر في نداء محبوبته أساليب أربعة كلها مشوقة وجاذبة فهو يناديها وكأنما يحدث نفسه بشئ لا يريدها أن تعرفه ولذلك تجده يرفع الصوت عالياً بالنداء فإذا التفت المنادى اضمر ما نادى المنادى بشأنه !!!

وأول هذه الأساليب الأربعة هو النداء الصريح سواء ذكر اسم المحبوبة علناً أم تفنن في إخفائه إلا لمن يعرفون التفاصيل:

ســـونا كــونى الليـــلة باســـــم لى دابو

سونا فى عز صيفو جاد بالغيث سحابو

ســونا شــوفتك قلبى عادت لى شـــبابو

كفكفـــت دمعـــاتو ولى زمــن عذابــــو

* ســونا قبــلك هو كــم تاه فى ســــرابو

فى جحيمو الصالي… كم الما اصــابو

سونا كان فى الدنيا متحمل …صعابو

والامل ما زارو فــــــــد يوم دق بابو

ويلاحظ القارئ هنا أنه حذف ياء النداء في جميع الأبيات وهو جائز في النحو ويجوز حذف جميع أدوات النداء كما قال سيبويه “ويجوز حذفهن كلهن كقولك حارِ بنَ كعب أي يا حارث بن كعب ولعل سيبويه يقصد الترخيم والياء في هذا المثال ، ففي الترخيم يحذف آخر المنادي كما قال ابن مالك: 

ترخيماً احذف آخر المنادى كيا سعا فيمن دعا سعادا

وأما ثاني هذه الأساليب فهو نداء الرقة والدعة والتدلل فأحياناً يخاطب المحبوب بأنه روحه وأحياناًمالك عمره في كناية لطيفة عن السيطرة والتحكم ، ومرات خله وحبيبه ومرات نور حقيقته وهكذا ،، حتى يجلب الحيرة إلى قلبك وكأنه لا يكاد يفيق من رقيق اللفظ حتي يأسر اللفظ الرقيق!!!

ياروحـى مشغول بال مــحتار أنا ومـــحتار

مابهـون فــــراقك يوم ألــــم الفراق تـــاوار

يا المستحيل بعدك يا الحار فــــراقك حـــار

قــــلبى الحنين أصبح مـــوطن هـواكا ودار

دنيايا غير عــينيك ليل مســـــدل الاستــــار

فيهو القى روحى بلاك مسجونة دون أسوار

انت المعـــاى أنغـــــام داؤود بلا مزمــــــار

تسكر حنايا الروح من كأس ندى الازهــــار

أستـــــحلفك بالفيــك والفى مــــــوقد نـــــار

بى صرخة فى الاعماق دار تفضح الاسرار

بى دم دمــــوع عينى بى دمــــــعك المدرار

يـــــرويك ويــــروينى ويخنق غنا الأوتــار

والرقة في أدب السر ليست صنيعاً في النداء فقط ، فهي لا تنفك من الرقة والدلال الذي يحيط بكل تفاصيل الحوار وفصول الخطاب انظر معي إلى الكلمات : تاوار، حار فراقك حار، قلبي الحنين، انغام داود بلا مزمار، كاس ندى الازهار ، دمعك المدرار، يرويك ويرويني، غنا الأوتار،، فهذه الكلمات كلها رقيقةوكلها تخاطب الحبيب الذي هو في مقام الروح بلغة بالغة الرقة والتذلل !! إنها صورة التقطها الشاعر من مكان قريب حتى حمّلها كل تفاصيل المشهد!!!

وأما الأسلوب الثالث وهو أكثر هذه الأساليب تصالحاً مع شعره وتألفاً مع معانيه وتعانقاً مع ألفاظه ، فهو النداء بالصفة، فالسر تتعدد عنده الصفات وتتوع عنده التشبيهات حتى لتخال إنه لا يجيد فناً سواها فما ان يريح إحساسك بصفة رفيعة حتى يباغتك بصفة أخرى أكثر عذوبة وتأثيراًورفعة!!

فالمحبوب عنده إما باكٍ وإما مبك وإما فرح وإما مفرح وإما قادم وإما مفارق وهكذا فهو في حركة دؤوبة لا تعرف السكون وسبب ذلك كله هو المشهد الذي يولده الشاعر، فهو لا يصور المشاهد الجامدة ولكنه يلتقط التصاوير المتحركة لذلك فهو ينقلك من مشهد إلى مشهد كما تفعل “كاميرا الفيديو” التي لا تعرف عدستها الهدوء ولا يغشى عيونها النعاس إلا أمنة !!!!

يا حالبة من عينِي الدموع .. يا صالبة فوق وتري الرنين

لا ليــــــــــكي متمنّي الرجـــوع .. لا تاني عاودني الحنين

انظر إليه حتى في لحظات القسوة تجده يستخدم معكوس الحنين ليدل على الجفاء ولا يميل إلى غليظ القول مع مناسبة المشهد!!!!

وأما رابع هذه الأساليب البديعة فهو نداء الحال أو الصفة المشبهة باسم الفاعل وهذه تغلب عليها نزعات التمني والرجاء وكلها يستمدها من واقع الحال الذي بينه وبين مشهد المحبوب !!

يا المشـــــــــــتهِنَّك وفي غيابك بالنا بيك ضُمَّة انشغل

النــوم وراك يبقالنا شر .. فارق عيونَّا ، خلاص رحل

ضايقين متين ترجع تعود .. نسأل ، متين قطرك يصل

حارسين شويفعنا البجيب لينا البشارة يجيب أمــــــــل

يجــــري ويناهد من بعيد .. شايِلُّو شنطة ، وبي عَجَل

يفرح يقــــــــول .. خلّيتو جايي وراي يسالم في الأهل

انظر معي إلى مشهد هذه اللوحة الفريد !! إنه مشهد يتكرر في كل قرية !! انظر معي بالله إلى روعة هذه الصورة وكيف أنه زج بالطفل الصغير الذي ينقل الخبر فيأخذ البشارة (الجائزة) التي ما كانت تزيد على قرش أو قرشين ويأتي والفرحة تحجب عنه التعب وهو يحمل متاع الحبيب القادم ليبلغ الحبيب المنتظر خبر الوصول !! ثم انظر إلى هذا الحراك الاجتماعي المتفرد عندما يصل أحد سكان الحي من سفر ولو كان لأيام معدودات!! يتحرك الحي بأكمله!! وشاعرنا لا يأسره إلا مثل هذا المشهد الحي النابض بالحركة المليء بالحيوية!!

يا الناسينا ..حبـــــــك في ربيع دنيانا شال نور

تسقي الذكريات يا روحي شان يخضر لي يكبر

همساتنا وعناقنا الحـــــــاني يا ريت ليها تتذكر

لمان من جداول ريــــــــدنا كنا بنرتوي ونسكر

ضل السيســـــبان والمنقة لافينا بوشاح أخضر

فرع البرتكــــــــــان متدلي فوقو كنارو يتبختر

والكون كلو باســــم لينا طربان غنى واستبشر

هنا تتجسد الصورة ويستمد المشهد روعته ، وتتجاذب الفاظ الغرام مع عبارات اللوم والعتاب مع صدى الذكريات الجميلة في تناغم بديع وتعانق رفيع وحس صادق يمتزج فيه التمني بالرجاء والتغني بالبكاء إنه مشهد رائع لا يقل جمالاً عن جمال الطبيعة التي احتوته بسيسبانها وفاكهتها وربيعها وزهرها وخضرتها ومائها ووجهها الحسن !!

وقد جمع الشاعر هنا هذه المرة بين الندائين : نداء الرقة ونداء الحال ليزيد من وسائل براعته بما يليق وعظمة هذا المشهد المتراكب شديد التعقيد

وأما المحور الثالث من نداء المجموعة الأولى فهم الأخوان الذين يستنجد بهم من حين لآخر سواء كان ذلك بصيغة المفرد العلم مثل يا حمد سعيد ، أو يا مامان أو يا حسن (في إشارة لحسن الدابي) وهكذا، أو كان النداء على الصفة مثل يا صاح ، يا خلي ، يا رفيق . وأحيانا يتوسع الموقف فيكون النداء بلفظ الجماعة مثل يا جلابة ، يا أحبابنا ، يا اخوانا ، وهكذا ..

ومن الطريف أن العرب كانت تنادي في الغالب بصيغة المثنى أكثر مما نحن عليه في أدبنا السوداني حيث يكثر نداء المفرد والجمع كالذي عليه صاحبنا ، وكأن العرب، وهي سابقة، قد اتخذت منحى وسطاً بين الجمع والإفراد مثل ما قال امرؤ القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وكما قال نابغة بني جعدة:

خليليّ عوجا ساعة وتهجرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا

فنجد في أدبنا السوداني يكثر الميل لنداء الجمع والمفرد مثل قول الشاعر

لي زمن بنادي للخديدو ناد يا ناس محبوبي ساكت قصد عنادي

او قول شاعرنا

سيد الاسم محبوبي وكتين يبتسم الدنيا يا ناس تنقسم

 أو كقول الجاغريو في نداء المفرد

يا رايع جفيتني وانا ضايع تعال لي

ومع ذلك فقد كان لندءات السر عثمان من هذا النوع طعم خاص انظر معي إلى نداء المفردعنده:

ساقتنا الظروف يا صاحي لي دار العذاب والغربة

فارقنا القرير نتباكى واحكام الزمن صــــح صعبة

وانظر كذلك

يا خلي آه قولي دحين كيفن بقوم أنا جيت متين !

فهي نداءات يملؤها الحنين وتتوسدها الآهة ويغطيها الحرمان!! وليست هي كالمعاني التي يطرقها كثير من شعرائنا في النداء المتوفر على النحيب أو اللوم أو الشكوى!! ولك أن تعيد النظر فيما قدمنا من أمثلة عربية وعامية !!

 

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.