قيم ومفاهيم عظيمة للاستثمار الإسلامي

قيم ومفاهيم عظيمة للاستثمار الإسلامي*

  د. توفيق الطيب البشير

الاستثمار في النظام الإسلامي يرتكز على أسس ومبادئ لم تكن معروفة ولا معتبرة في النظم الوضعية ، ذلك لأن الإسلام قد حث عليه وأحاطه بمجموعة من الضوابط والمفاهيم والقيم الأخلاقية السامقة، وترتب على ذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .

وقد حظي المال في النظام الإسلامي بأهمية بالغة حيث نال مكانة الأعراض والدماء من الحرمة، كما ورد في الحديث « كل المسلم على المسلم حرام ، عرضه ، وماله ودمه » ([1]) ، ثم جعل حفظ المال من المقاصد الخمسة الكبرى للشريعة ، ومهد الطريق أمام استثماره بأدوات وصيغ عديدة تراعي المصلحة العامة وتخدم العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتحقق النمو والتوظف الكامل .

ومما يؤكد حرص الإسلام على استثمار الأموال قول عمر رضي الله عنه ” فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنة ، وإن كان من الأغنياء ”  وقال ابن خلكان في تاريخه حثاً على العمل :” لو يعلم المسلمون وأبناء المسلمين ما أعد الله للمسلمين في إحياء الأرض ، ما ترك المسلم بقعة من الأرض دون إحياء رجاء الثواب المدخر عند الله “.([2])

ومما يدل على ذلك أيضاً ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال أما في بيتك شيء ؟ قال بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء قال ائتني بهما قال فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال من يشتري هذين قال رجل أنا آخذهما بدرهم قال من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً. ([3])

فانظر كيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يبيع هذا الرجل كل ما عنده من سلع استهلاكية ، لكي يحصل على أداة إنتاج واحدة يستعيد ببعض ما يدخره من عائدها هذه السلع مرة أخرى أو خيراً منها ويستهلك جزءاً من إيرادها في مأكله ومشربه وملبسه !.

     وحتى تحقق العملية الاستثمارية أهدافها فقد طوقها الإسلام بمجموعة من القيم والمعايير الأخلاقية العظيمة التي تجعل من المسلمين أمة وسطاً تأكل من الطيبات وتعمل على إعمار الأرض ولكن دون إسراف ولا تقتير كما قال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ) ( الإسراء : 29 ) ومن هذه القيم والمعايير ما يلي : – 

أولا : الإسلام يشجع الادخار ويحرم الاكتناز :

وقد حث الإسلام على الادخار ، باعتباره الخطوة التي تسبق الاستثمار، أو هو أداة الاستثمار على الوجه الأقرب للصواب . ومما يدل على ذلك ، قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد ابن أبى وقاص ، عندما أراد أن يتصدق بأكثر من ثلث ماله ، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . ([4])

وينبغي هنا ونحن نتحدث عن الادخار، أن نفرق بين الادخار المنشود شرعاً لأغراض الاستثمار أو الاستهلاك المستقبلي، والاكتناز الذي حرمه الله تعالى؛ ذلك لأن الاكتناز يمنع من استغلال المال في الأنشطة التجارية لخدمة المجتمع ، مما يقلل من إتاحة فرص العمل ، ويخفض القوة الشرائية للمجتمع  ويعطل دورة المال ويقلل من معدلات الإنتاج. ولذلك فقد أمر الإسلام بتنمية المال المدخر وتثميره ، بدلاً من اكتنازه وحبسه ، كما قال صلى الله عليه وسلم :” ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه ، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ” . ([5])

فالفرق بين الادخار والاكتناز كبير جداً من حيث المدلول الاقتصادي ، إلا أنهما قريبان جداً من حيث المدلول اللغوي عند كثير من الناس ، وفي الواقع أن بينهما خيطاً رفيعاً ، كالذي يفصل بين السالب والموجب في إحداثيات الهندسة التحليلية ، لأن الادخار تجنيب لجزء من الدخل بغية إضافته لدورة الاستثمار ،والاكتناز تجنيب لجزء من الدخل وحبسه عن دورة الاستثمار، والذي ينظر إلى حكمة تشريع الزكاة، وكيف أنها تذهب بالمال المكتنز لعلم بأهمية الادخار ، ودوره في تنمية معدلات الاستثمار، ولعلم الفرق البيِّن بينهما في الفقه الإسلامي العظيم .

ثانياً : الإسلام يشجع ترشيد الاستهلاك ويحرم الإسراف :

ومما يؤكد حرص الإسلام على ترشيد الاستهلاك لإتاحة الفرصة لمزيد من الاستثمار ، تحريمه للإسراف والتبذير ، كما في قوله تعالى « كلوا وأشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين » .

     فإذا فعل المسلم هذين الأمرين ، أي أنه سعى في طلب الرزق واستزادته ، مع حرصه على ترشيد استهلاكه ، كان هذا مدعاة لزيادة الادخار الذي ظنه « نيركسهNurkse  » مستحيلاً في مجتمع الفقراء  ( وهذا صحيح في مجتمعات الفقر التي لا تعرف الأخلاق إليها طريقاً ) كما أن زيادة الادخار ستتيح كثيراً من الأموال أمام المستثمرين لمزيد من الإنتاج .

ثالثاً : الاسلام يشجع الإنفاق ويحرم البخل :

     وترشيد الاستهلاك لا يعنى أن الإسلام يحض على تقليل الإنفاق ، بل العكس من ذلك تماماً فقد جعل الإسلام للإنفاق في سبيل الله أجراً عظيماً ، ولكنه في ذات الوقت عمد إلى تنظيمه واعتدال تدفقه، ومن ذلك أن يكون الإنفاق بهدف تنمية موارد المجتمع ( إنفاق استثماري ) ، وإشباع حاجات المسلمين ( إنفاق استهلاكي) وإعلاء شأن الإسلام والمسلمين ( إنفاق صدقي ) .

     والإسلام لم يقف عند حد تشجيع الإنفاق بجميع أنواعه في الوجوه المشروعة وحسب بل حرم البخل تحريماً شديداً وحذر منه، كما في قـوله تعالى ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ( الحشر : 9 ) والسبب في ذلك أن البخل مرض اجتماعي خطير يؤثر على معدلات الاستهلاك الضرورية فضلاً عن الحاجية والتحسينية وهذا يؤثر بدوره في العملية الاستثمارية لأن البخيل يقتر على نفسه ويحرم من يعولهم من كل شيء تقريباً ، حتى بلغ الحال بابن الرومي وهو يصف بخيلاً أن يقول :

يقتر عيسى على نفسه    وليس بباق ولا خالـد

ولو يســتطيع لتقتيره    تنفس من منخر واحد

وإذا كان الاكتناز حبس للمال المدخر عن دورة الاستثمار ، فإن البخل حبس للمال المدخر عن دورة الاستهلاك وهو بهذا المعنى تنمية للمال على حساب رغبات النفس والحاجات الطبيعية الضرورية وقديماً عرفـوا البخيل بأنه من ترك غداءه لعشائه إن لم يكن قد تركهما معاً .      

وإذا تأملنا هذه القيم والمفاهيم المتقابلة لعلمنا الحكمة الإسلامية العظيمة من وراء الأمر بها أو النهي عن أضدادها فالإسراف عدو للادخار والاكتناز عدو للاستثمار والبخل عدو للاستهلاك ولذلك حرم الإسراف والاكتناز والبخل تحريماً شديداً وأمر بالاقتصاد في الاستهلاك والادخار والاستثمار وهذه هي المقادير الجبرية في معادلة الدخل في النظرية الاقتصادية .

ومن الناحية الاقتصادية فالإسراف يبدد طاقات المجتمع ويقلل من نمو المدخرات فيقلل من معدلات الاستثمار الأمثل والقائم على تنمية واستخدام المدخرات الوطنية لا على القروض الأجنبية والفوائد ويتيح الفرصة أمام الاستهلاك الرشيد لا الاستهلاك البذخي والاكتناز يعطل دورة المال فيقلل من معدلات الاستثمار الذي يؤدي إلى انخفاض معدلات الدخل من جهة وانخفاض معدلات الادخار من الجهة الثانية فتبدأ حلقة مفرغة لا ندري من أين تبدأ وكيف تنتهي . وأما البخل فيعطل الاستهلاك الكمالي والتحسيني ويقلل من الاستهلاك الحاجي والضروري فيؤدي بالاقتصاد إلى حالة من الركود وربما أدى كنتيجة طبيعية إلى الاكتناز فتبدأ الحلقة المفرغة مرة أخرى .

          فهل عرف الغرب و الشرق ( أحدهما أو كلاهما) قيماً ومفاهيم استثمارية كهذه أم أنهم يقولون بتعظيم الربحية وتكديس الثروة ، ويتركون حلقة نيركسة المفرغة لمجتمعاتنا التي أريد لها أن تستهلك أوقاتها وأموالها فيما يضر ولا ينفع ؟ ومتى نطبق هذه القيم والمفاهيم في بلادنا الإسلامية فنترك البخل والإسراف والاكتناز ، ونشجع الادخار والإنفاق والاستثمار؟ وأين نحن من آبائنا الذين قال فيهم أبو فراس:

ونحن أناس لا توسط عندنا       لنا الصدر دون العالمين أو القبر

المراجع

 [1] – رياض الصالحين ، ص 109

 [2] – موسوعة الاقتصاد الإسلامي ( بيروت : دار الكتاب اللبناني ، 1980 ) د. محمد عبد المنعم الجمال ، ص 109 – 110 

 [3] – سنن أبي داود ، كتاب الزكاة ، حديث 1398 .

 [4] – فتح الباري 5/427 حديث رقم 2742

 [5] – سنن الترمذي 3/641  .——————————————————————————————————————–

  • نشر بمجلة عالم الراجحي العدد 70 -2005
هذه المقالة كُتبت في التصنيف مقال اقتصادي. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.