التنمية ورفع مستوى المعيشة في الإسلام

 التنمية ورفع مستوى المعيشة في الإسلام

د. توفيق الطيب البشير

الذي يتأمل الفرق بين نظرة الإسلام والنظم الوضعية إلى تملك الأفراد للمال يلاحظ بونا شاسعاً في الغاية والوسيلة . فالرأسمالية ظلت تحارب الفقراء طوال أكثر من ثلاثة قرون تحت شعار تعظيم الربحية ، والاشتراكية ظلت تحارب الأغنياء (الرأسمالية ) حتى لحظة انهيارها ولأكثر من قرنين من الزمان تحت شعار من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته . أما الإسلام فقد سلك طريقاً آخر مختلفاً تماماً وهو محاربة الفقر لا الفقراء ووضع الحلول التي من الممكن أن تؤدي إلى تحقيق الرفاهية الاقتصادية دون إسراف ولا تبذير وتجعل الفقراء في خندق واحد مع الأغنياء لكي لا يكون دولة بين الأغنياء ولكي لا تنتشر الأوبئة والأمراض والجوع بسبب الفقر لدى طائفة من المجتمع دون أن يكون للأغنياء دور ملموس في الدعم والمساعدة .

والإسلام كذلك لم يحارب الأغنياء بل جعلهم في أعلى المراتب إذا قامت ثرواتهم على الكسب الحلال والإنفاق الحلال وتجسدت في كسبهم وإنفاقهم مفاهيم الطاعة لله الواهب الرزاق وانتهوا عن الباطل في أكل الأموال.

وإذا كانت أهداف التنمية الاقتصادية في الإسلام وفي النظم الاقتصادية الأخرى تدور حول القضاء على التخلف بأشكاله المتخلفة ، ومن ثم النهوض بالدول إلى أعلى درجات التقدم والنمو  فإن هذا الهدف السامي لا يمكن تحقيقه ، إلا باستخدام عدد من الوسائل والأهداف الفرعية ؛ للوصول إلى هذا الهدف الرئيس ، لعل من أهمها زيادة الدخل القومي وتحسين مستوى المعيشة وكلاهما مرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً.

زيادة الدخل القومي : ـ

وبالرغم من الاختلافات التي دارت حول زيادة الدخل القومي الحقيقي وقياس التخلف الاقتصادي والتنمية ، بناء عليه ، كمؤشر حقيقي ، إلا أنه لا يزال يعد هدفاً منشوداً .

 فالدكتور العقاد مثلاً يقول: “تعتبر زيادة الدخل القومي من أول أهداف التنمية الاقتصادية في الدول المتخلفة ، بل هي أهم هذه الأهداف على الإطلاق ؛ وذلك لأن الغرض الأساسي ، الذي يدفع هذه البلاد إلى القيام بالتنمية الاقتصادية ، إنما هو فقرها ، وانخفاض مستوى معيشة سكانها وازدياد نمو عدد سكانها ولا سبيل إلى القضاء على هذا الفقر وانخفاض مستوى المعيشة وتحاشي تفاقم المشكلة السكانية إلا بزيادة الدخل القومي ” (1)

ولعنا نختلف قليلاً في هذا الموضع مع الدكتور العقاد – رغم صحة فرضه إجمالاً – في اعتبار أن الغرض الأساسي من التنمية ،  هو الفقر ومستلزماته ، التي عددها آنفاً ؛ لأن التخلف بشكل عام يعد في الحقيقة دافعاً قوياً للقيام بالتنمية الاقتصادية ، إلا أنه ليس السبب الرئيس الوحيد . ولو كان الأمر كذلك لانتهت دول كثيرة من الدول الغنية عن سعيها في مواصلة مسيرة التنمية بعد أن قضت على شبح الفقر واختناقات الجوع والمرض .

رفع مستوى المعيشة :

التنمية الاقتصادية لا تسعى لتحقيق زيادة في الدخل القومي،  فحسب ، وإنما هي أيضاً وسيلة لرفع مستوى المعيشة للسكان ؛ وذلك لأن زيادة الدخل القومي قد تتحقق ، ولكن قد لا يُحدث ذلك أثراً على مستوى المعيشة . والمستوى  الطيب من المعيشة في المأكل والملبس والصحة والمسكن وغيره أمر ينشده جميع الناس على اختلاف مشاربهم وهو أمر دعا عليه ديننا الحنيف وحث عليه في كثير من المواضع ، وعلى سبيل المثال فقد أمر الإسلام بالرفق بالخدم وضعاف البشر من الصبية والعجزة والنساء كما أمر بالعمل على مساعدتهم وتحسين معيشتهم وأمر بتثمير أموال الذين لم يبلغوا الحلم منهم لتزداد دخولهم في المستقبل .كما جاء ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص  ” إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ” ومن ذلك أيضاً قول النبي صلي الله عليه وسلم :” اخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم”.(2) 

“وقد ظهر تطبيق ذلك من الناحية العملية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخرج الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا ذر عبداً فقال :” أطعمه مما تأكل ، وألبسه مما تلبس ” وكان لأبي ذر ثوب فشقه نصفين ، فأعطى الغلام نصفه ، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال : قلت يا رسول الله أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ، قال نعم ” (3)

والله سبحانه وتعالى ، قد كلف الدولة برعاية الحد الأدنى للحاجات البشرية من مأكل وملبس ومسكن ، وأمرها برعايتها والتحقق من وجودها لكل فرد من رعاياها ، وهو ما يسميه علماء الإسلام حد الكفاية وهو أرفع بكثير من حد الكفاف الذي تتحدث عنه الدراسات الوضعية .

ويأتي رفع مستوى المعيشة إلى ما فوق حد الكفاية من أهداف التنمية أيضاً ؛ لأن التنمية لا يقف دورها عند محاربة التخلف والفقر ، وإنما يتعدى ذلك إلى بلوغ حد الرفاهية في المجتمع المسلم .

ويختلف الإسلام في ذلك عن غيره من النظم الأخرى ، فيما يتعلق بالمبادىء التي تحكم تنمية الإنتاج ، وصلة هذا الإنتاج بالتوزيع . فعلى الرغم من أن النظم الاقتصادية على اختلافها تتفق جميعاً على الاستفادة القصوى من الموارد وتنمية الإنتاج ، إلا أنها تتبع في ذلك من الوسائل ما يتفق مع مبادئها التي تنادي بها.

 فالرأسمالية تهدف إلى تنمية ثروة المجتمع دون النظر إلى سبل توزيعها ، ودورها في تحقيق الرفاهية للمجتمع . وتسلك لذلك كل السبل المؤدية إلى تحقيق هذا الهدف ، دون اعتبار لآثارها الأخرى على المجتمع ، والاشتراكية تؤكد العلاقة بين الإنتاج والتوزيع ، إلا أنها ترى أن نظام التوزيع يتبع دائما شكل الإنتاج ويتفق مع مصلحة الإنتاج.

أما الإسلام ، فقواعده التوزيعية ثابتة ، لا تتغير من عصر إلى عصر  ولا من إقليم إلى إقليم . والإنتاج مجال لتطبيق قواعد التوزيع ، ولذا فهناك حدود وقواعد للإنتاج ، تكيِّفه ضماناً لعدالة التوزيع ، واتساقه مع أهداف الإسلام ، وعلاج المشاكل التي تترتب على تغيير أساليب الإنتاج. (4)

ولذلك فرفع مستوى المعيشة هدف يمكن تحقيقه ، عن طريق التكافل الاجتماعي ، والتوزيع العادل للثروة ، لا عن طريق تخفيض معدل النمو السكاني كما ينادي بذلك الكثير من الاقتصاديين .

تقليل التفاوت في الدخول والثروات :-

من أهداف التنمية الاقتصادية في الإسلام ، أن يتحسن توزيع الثروات ، فلا تستأثر بها فئة قليلة من المجتمع ، ويظل السواد الأعظم في فاقة وحرمان وضياع . ومن واجبات الدولة أن تتدخل لمنع مثل هذا الاستئثار ، والحد من هذه الأنانية ، التي تتيح لمجموعة من أهل البلد أن تنعم بالخير كله تمشياً مع قوله تعالى ” كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” .(الحشر : 9)

والله عز وجل فضل بعض الناس على بعضهم في الرزق ؛ ولكن مع ذلك  فإن هدف تقليل الفوارق بين الأغنياء والفقراء ، إنما هو هدف سام يوازن بين الغنى الفاحش والفقر المدقع ، ويتم ذلك بالزكاة والصدقات والإنفاق في وجوه الخير ، ولم يكن يرمي إلى المساواة بين الغني والفقير لما قد يجره ذلك من الظلم والتواكل والحسد بين العامل المجهد والكسول المتخم .

ولتقليل التفاوت بين الدخول والثروات فائدة اقتصادية ، تتمثل في رفع الميل الحدي للاستهلاك ، وتزيد من قدرة الجهاز الإنتاجي ، وإيجاد الفرص الوظيفية .  فالطبقة الموسرة التي تستحوذ على كل الثروة ، ومعظم الدخل ، لا تنفق في العادة كل ما تحصل عليه من أموال بسبب قلة ميلها الحدي للاستهلاك وهي عادة ما تكتنز الجزء الأكبر من دخلها بعكس الحال بالنسبة للطبقات الفقيرة التي يدفعها إرتفاع ميلها الحدي إلى إنفاق كل ماتنفقه عليه من أموال .

ولذلك فالإسلام في نظرته لهذه الميول المتناقضة ، قد ربط بين الترغيب في الصدقة ، والترهيب من اكتناز الأموال ، وتعطيلها عن العمل  ولو التزم المسلمون في جميع مناحي الأرض ببذل الصدقات والزكوات ووضعها في مصارفها الشرعية لما عاش بين المسلمين فقير ولما تداعت علينا الأمم ووضعت أقدامها فوق رقابنا ونحن منبطحين على الأرض نلاقي الذي لاقى مجير أم عامر والله المستعان !  

المراجع :

(1) مقدمة في التنمية والتخطيط ، ص 50

(2) صحيح البخاري ، طبعة المكتبة العصرية ، بيروت 1995 حديث رقم 30

(3) فتح الباري ، طبعة دار الريان 1987 ص 109

(4) عبد السميع المصري ، عدالة توزيع الثروة في الإسلام ، ص 7 


  • نشر بمجلة عالم الراجحي – العدد 76 – 2005
هذه المقالة كُتبت في التصنيف مقال اقتصادي. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.