البدائل الإسلامية لأدوات السياسة النقدية الرأسمالية

البدائل الإسلامية لأدوات السياسة النقدية الرأسمالية

د. توفيق الطيب البشير

منذ أن حل الدولار الأمريكي محل الذهب وظهرت على الأرض المؤسسات النقدية الرأسمالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإعمار والتنمية كنتيجة لاتفاقية بريتون وودز (1945م) وحتى يومنا هذا والأزمات الاقتصادية والنقدية تتوالى على هذا النظام وعلى الدول التي تطبقه .

 ومن أولى هذه الأزمات والآثار السلبية هي أن اتفاقية بريتون وودز قد أفضت إلى نشوء حالة جعلت العملات الوطنية لكثير من الأقطار معتمدة على الدولار الأمريكي وإذا ما أخفقت طرق التنظيم في المحافظة على سعر العملة الوطنية ضمن الحدود المسموح بها فإن قواعد صندوق النقد تلزم تلك الدول بإجراء تغيير رسمي في سعر التعادل لتلك العملة وهذا التغيير قد يؤدي إلى التخفيض (Devaluation) وهو الأمر الأكثر شيوعاً مما يؤدي تلقائياً إلى زيادة حدة التضخم بسبب الارتفاع المستمر للأسعار.  ([1])

ولعل السبب الرئيس ، في اعتقادنا ، وراء تلك الأزمات والتناقضات والآثار السلبية يكمن في تغلغل ظاهرة الربا كأساس منهجي وعملي للنظام النقدي الرأسمالي .

        يقول سيد قطب : “ان النظام الربوي بلاء على الإنسانية – لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب – بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقاً ويعطل نموها الإنساني المتوازن بالرغم من الطلاء الظاهري الخداع الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام “. ([2])

         ولا يخفى على أحد  الأثر السيئ للربا على مجرى الحياة الاقتصاديـة ؛ لأن الفائدة تعوق الإنتاج ، فلا يصل إلى هدفه الأخير ، وهو الاستهلاك الكامل . وفي هذا الطريق المسدود يظهر الكساد والبوار ، فتنخفض الأسعار وتنتشر البطالة ويتأثر النشاط الاقتصادي في مجموعه . ([3])

ومن المعلوم أن زيادة الطلب وقلة الادخار تؤدي إلى رفع سعر الفائدة ، وهو ما يتوقعه أصحاب الطلب المتزايد ، كما يؤدي العكس وهو نقصان الطلب وزيادة الادخار إلى نقص الفائدة ، وهو الأمر الذي يؤكد الأثر المباشر للفائدة على الدورات الاقتصادية ، وتوليد الأزمات.

ويقول فريدمان في مناقشته لمضاعفات ارتفاع الفائدة على الدين العام والاقتصاد القومي : “إن ارتفاع سعر الفائدة الآن ، سوف يجعل من العسير تخفيضه مؤخراً ، وسعر فائدة منخفض سنحتاجه مؤخراً ؛ لنمنع الركود”.([4])

وإذا كان فريدمان قد رأى ضرورة تخفيض سعر الفائدة لمنع الركود فإن الإسلام قد منع الفائدة كلية لينعم الناس باقتصاد خال تماماً من الأزمات والآثار السـيئة المصاحبة لها . وحسبنا أن نشير هنا إلى ما قاله نصر شمالي عن ارتباط النظام الرأسمالي بوجود الأزمات الاقتصادية واحتضانه لها ، إذ يقول : “لقد عرف عن هذا العصر الرأسمالي أن نظامه العالمي ينمو ويترعرع بفضل الأزمات . إنها ظاهرة بارزة من ظواهره تطبع مسيرته التاريخية كلها بطابعها ، وفي جميع مراحلها . وقد عرف عن تلك الأزمات أنها بمثابة مولّد الطاقة للعصر الرأسمالي ونظامه العالمي بمعنى أنه لا يستطيع ممارسة وظائفه التاريخية من دون الأزمات ، ولا يعيش بصفته نظاماً رأسمالياً ، إلا بالأزمات !”. ([5])

ولعل السياسة النقدية الرأسمالية ما سلمت من دبيب الربا في ليلها الأسود فأصبحت تحمل الفائدة الربوية وهناً على وهن تدير الاقتصاد القومي بواسطتها ومن أجلها أيضاً فعاشت عمرها كله مخاضاً وآلاماً وملأت الحياة الاقتصادية والاجتماعيو بؤساً وجحيماً .

الحلول الإسلامية لمشكلات السياسة النقدية :

إن الإسلام بنظامه الاقتصادي الشامل قد حارب الربا نظراً للأضرار البالغة التي يصيب بها المجتمع والنظام الاقتصادي على السواء ولكنه في الوقت نفسه قد مهد الطريق نحو التوظيف الأمثل للموارد سواء كان ذلك بوضع سياسات نقدية سليمة أو من خلال تبنيه لأدوات وصيغ تمويلية واستثمارية فاعلة ومتعددة .

ومن المهم أن نشير ههنا إلى أن الأدوات التي تستخدمها السياسة النقدية الرأسمالية للتحكم في عرض النقود وتوجيه النظام النقدي ليست كلها مرفوضة إسلامياً ، فبعض هذه الأدوات لا يعارض الشريعة ، وإن كانت أهم أدواتها تقوم على الربا ، ولذلك صرح بعض علماء الاقتصاد الإسلامي بأن معظم أدوات السياسة النقدية المتاحة لمصرف الدولة في ظل القوانين المصرفية الوضعية يمكن أن تبقى إلى حد كبير دون مساس في ظل النظام اللاربوي ، يعنون بذلك الحد الأدنى للاحتياطي النقدي ، ومطلب نسب السيولة والسقوف الإجمالية لعمليات المصارف في الإقراض الحسن والاستثمار  .

واختصاراً  نقول إن كل الأدوات الوضعية التي لا ترتبط بالفائدة ولا تتعارض مع حكم شرعي يمكن قبولها كأسلحة نقدية لا غبار عليها في ظل النظام الخالي من الربا . أما الأدوات التي ترتبط بسعر الفائدة فإنه من الضروري إيجاد بدائل شرعية لها تمكن المصرف المركزي من قيامه بنفس الدور وتحقق الأهداف التي يرمي إليها ، ومن هذه الأدوات التي نحتاج لتبديلها لارتباطها بالفائدة سعر الخصم وسياسة السوق المفتوحة وهما أهم أداتين تستخدمهما السياسة النقدية الرأسمالية في هذا العصر.

البديل الشرعي لسياسة سعر الخصم :

        يشير الدكتور نجاة الله صديقي إلى أن سعر الخصم لا مكان له في سياستنا النقدية الإسلامية والذي يتعين علينا هو إيجاد بديل تقره الشريعة ويحقق الهدف فيقول  :”وعلى أية حال فإن سلاح سعر المصرف (سعر الخصم ) يصبح زائداً على الحاجة بمجرد إلغاء الفائدة إلغاء كاملاً من النظام ، كما أن المساعدة المالية التي يقدمها مصرف الدولة إلى المصارف والمؤسسات المالية الأخرى والتي تعتبر أيضا وسيلة لتنظيم النقد والائتمان تتعرض أيضا للتغيير بالقدر الذي يحتاج إليه منح مثل تلك المساعدة على أساس المشاركة في الربح والخسارة بدلا من أسعار الفائدة الثابتة . ([6])

إن الحل البديل لهذه الأداة يتطلب إيجاد صيغة يمكنها الوصول إلى ذات الهدف ولكن دون وقوع في محظور كالربا أو خلافه من الأمور التي تحرمها الشريعة ، وإذا كان الهدف إجمالاً من سياسة سعر الخصم هو التأثير على الطلب الكلي للائتمان سواء عن طريق رفع أسعار الفائدة أو خفضها ، فإن نظام المشاركة في الربح والخسارة هو الوسيلة المناسبة للحيلولة دون ارتكاب كبيرة الربا مع القدرة على التأثير نفسه على الطلب الكلي للائتمان.

ويحدد لنا الدكتور صديقي الآلية التي يمكن أن تلعبها المشاركة في الربح والخسارة في التأثير على الائتمان عن طريق استخدام البنك المركزي سلطته في تحديد نسبة مشاركته في الربح عن مساعدته المالية إلى المصارف والمؤسسات المالية الأخرى ويمكن أن يقوم بتغييرها من وقت لآخر حسب الضرورة كما يمكن ان يخول البنك المركزي سلطة تقرير الحدين الأقصى والأدنى لنسب المشاركة في أرباح التمويلات الممنوحة من المصارف مع فرصة تغييرها من وقت لآخر . ([7])

وبهذه الطريقة يمكن القول بأن الاختلاف ليس في الغايات والنتائج وإنما هو في الوسائل المؤدية إليها وعند تطبيق هذه الآلية يصبح الفرق الرئيس في هذه الصورة هو الاستناد إلى معيار حقيقي ذي أثر مباشر على الائتمان الموجه بالضرورة للانتاج وذلك بعكس التأثير الذي يفرضه سعر الخصم في تأثيره على الائتمان لكونه يؤثر فقط في جانب الإيرادات بعيدا ًعن مصادرها الإنتاجية الأساسية مما يجعل كثيرا من الأموال الائتمانية موجهة نحو الأنشطة الهامشية ذات العائد السريع بغض النظر عن أولويات النشاط الانتاجي للدولة .

سندات المقارضة كبديل لسياسة السوق المفتوحة :

إن سياسة السوق المفتوحة بصورتها التقليدية ليس لها مجال في النظام المصرفي المركزي الإسلامي ، ذلك لأن هذه السياسة تعتمد في آلية عملها على الفائدة الربوية التي لا وجود لها إطلاقاً في التخطيط المالي الإسلامي ، ويرى بعض الاقتصاديين أنه يمكن استخدامها كأداة مكملة لنسبة الأرباح الموزعة وذلك عن طريق تداول الأوراق المالية المباحة مثل أسهم الشركات ذات النشاط الاقتصادي المباح وسندات المقارضة والسندات الحكومية غير الربوية . ([8])

ويمكن للمصارف الاقتراض من الجمهور عن طريق صكوك المضاربة لامتصاص فائض السيولة في الاقتصاد واستخدامه كأداة بديلة في تمويل عجز الموازنة العامة بدلاً عن الاقتراض من البنك المركزي مباشرة أو التوسع في الإصدار النقدي .

        وفي اعتقادنا أن المصارف المركزية في بلادنا الإسلامية ، يمكنها البروز إلى المجتمع بآليات وأدوات مواكبة ومتعددة تكون عالية الكفاءة ومتناهية الدقة وقوية التأثير نستطيع من خلالها أن نحقق أهداف السياسة النقدية دون اللجوء إلى استخدام الفائدة الربوية في التأثير على عرض النقود سواء بالزيادة أو بالنقصان (وفقاً للحالة الاقتصادية المراد معالجتها)  وعندها ستصبح المصارف الإسلامية في وضع أكثر صلابة لتؤدي دورها المرتقب ولا سيما في المرحلة المقبلة وستتاح لها حينئذٍ فرصة كبرى للانطلاق بالاقتصاد القومي إلى آفاق رحبة وستزول تلقائياً تلك العقبات الناشئة من تعامل المصرف المركزي التقليدي مع المصارف الإسلامية بمعايير خاصة وبشئ من القلق في كثير من البلاد الإسلامية .

المراجع:

[1] – ستاد نيجينكو ، الأزمة النقدية في النظام الرأسمالي أصلها وتطورها ( بغداد : مطبعة جامعة بغداد ،1979) ترجمة د. محمد عزيز ، صـ 131 .

[2] –  في ظلال القرآن ، الجزء الأول ، ص 323 .

[3] –  الموسوعة الاقتصادية ، مرجع سابق ، ص 216 ، بتصرف .

[4] –  يوسف كمال محمد . فقه الاقتصاد النقدي (دار الهداية ، 1993) ، ص 78 . نقلاً عن :

Friedman, Essays in Positive Economics (University of Chicago P. 271. Press, 1954)

 

[5] –  فساد النظام العالمي ، من كتاب النظام المرابي العالمي ، ص 15 .

[6] –  إلغاء الفائدة من الاقتصاد ( تقرير مجلس الفكر الإسلامي في الباكستان ) من مطبوعات جامعة الملك عبد العزيز  ، 1984 م ، ص 79 .

[7] –  نفس المرجع ، ص  84.

[8] –  د. صابر محمد حسن . السياسة النقدية الإسلامية في التطبيق المعاصر “من ندوة التطبيقات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة المقامة في الدار البيضاء في الفترة من 5-8 مايو 998 ، ص  25 .​

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.