ود ابنعوف بين الامل والطيرة والحب المحال

هذا البحث هو جزء من كتاب بعنوان (نظرات في الشعر الشايقي- الجزء الأول) ، ويتحدث البحث عن ثلاثة شعراء وهم ابراهيم ابن عوف وعبد الله محمد خير والسر عثمان الطيب. وفصول هذا الكتاب على النحو التالي:

1- الرمز والبيان في أشعار السر عثمان
2- ود ابن عوف بين الأمل والطيرة والحب المحال
3- مع عبد الله محمد خير في مشواره الطروب

أما الجزء الثاني فسيكون عن الشاعر حسن الدابي والشاعر محمد سعيد دفع الله.

ونحن هنا بصدد الحديث عن شاعرنا ابراهيم ابن عوف

مدخل الى الشاعر

ابراهيم ابن عوف من مواليد أوسلي بالمديرية الشمالية، وهو شاعر معروف وله مكانة خاصة بين شعراء المنطقة.

ساهم كثيرا في تطوير الكلمة الشايقية وتطوير أغراضها، وأضفى عليها ألوانا من الجودة والجمال كما سعى – مع من سعوا- لجعل الشعر أداة للتفكير والتأمل فضلا عن تاثيره الروحي والوجداني.

وابراهيم شاعر مطبوع.. صادق الى أقصى غايات الصدق، معبر بأدق هذه الكلمة وأعمقها، ذو عاطفة جياشة، وشعور مرهف، وحس أدبي رقيق.

أقل ما يقال عنه أنه مجموعة من الأحاسيس النبيلة صورت وصيغت لتكون هذا الانسان الشاعر أو هذا الشاعر الانسان.

برع في الوصف براعة، قل أن يتصف بمثلها شاعر في زماننا الحاضر، فكان وصفه مزيجا رائعا من البلاغة العربية والحكم الشعبية.

له أربعة دواوين غير مطبوعة ، منها الطرف المسهد، ومن أعماق الليلي ودموع على درب الحياة. بدأ كتابة الشعر عام 1965م عن اثنتي عشرة سنة، وكان في بادىء أمره مقلدا، ثم متصرفا في اشعار غيره ثم استقل وأصبح مبتكرا جيد الابتكار.

أوزانه الشعرية

يعرف أدباء العرب الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى الذي يحدث في النفس لذة فنية، وهم بذلك يخرجون الأوزان التعليمية والمصنوعة عن دائرة التعريف. لذا وجب أن نتساءل: هل كان ابراهيم شاعرا حقا؟ هذا ما نحن بصد البحث فيه.

فنحن نرى أن معظم شعراء الشايقية وكثيرا من شعراء السودان يلتزمون الوزن العمودي، ويكتبون أشعارا خاضعة – في كثير من الأحيان والوجوه- لميزان ( العروض).أما صاحبنا، فهو من أوائل الشعراء الملتزمين بالشعر العمودي، المجيدين لأوزانه، وقد لاحظنا أن معظم قصائده موزونة وأنه يكثر من استخدام البحور المتماثلة وخاصة بحر الرمل.
ونحن لا ننكر أن هناك بعض خلل يعتور بعض الأبيات من ناحية الوزن العروضي الدقيق، الا أننا نسلم في الوقت نفسه بأنه خلل تمليه ظروف وطبيعة اللهجة العامية، لا ملكة الشاعر.

وأضرب لذلك مثلا، فاللهجة المحلية يكثر فيها التقاء الساكنين ولا يحدث ذلك خللا في أشعارها، بينما نجد ذلك ممنوعا، في أشعار ولغة العرب . ولذلك فالشاعر المحلي يمكنه استعمال كلمة (دابة) مثلا ولا يمكن ذلك للشاعر العربي.

وزن الرمل

هذا البحر مكون من فاعلاتن مكررة ست مرات، استخدمه الشاعر قائلا:
يبقى ماك عارف الحقيقة وقلبي كيف عايش هواكا
وماك عارف في بعادك حالتو كيف يصبح بلاكا
وتقطيعها هكذا
يب قماك عار/فلحقيقة/ وقل بكيف عا/يش هواكا
فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن/فاعلاتن
وزن الكامل
وهو الوزن المكون من متفاعلن x 6 يستخدمه شاعرنا قائلا:
أهديك يا أغلى الزهور نداوة شوقي الذي ملأ الضمير فهزني
أهديكيا/ أغلززهو/رنداوتن/شوقللذي/ ملأضضمي/رفهززني
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن/متفاعلن

وزن الوافر

والوافر يتكون من مفاعلتن مفاعلتن فعولنx2 ومنه قوله:
وتكبر يابا يا عكاز عمايا وراكوبة مقيلي وضل ضرايا
وبتقطيعها تصير:
وتكبريا/بيا عككاز/ عمايا وراكوبة/ مقيلضللو/ ضرايا
مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعولن مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعولن

وزن الرجز

وهذا الوزن يأتي على مستفعلن x6. جاء من مجزوئه قوله:

ما إنت غيمي الفي الهجير ضلاني من غيما لفح
ماانتغي/ ملفهجير/ضلانمن/حررنلفح
مستفعلن/مستفعلن/مستفعلن/مستفعلن
المتدارك
وهذا وزن خفيف جدا يتألف من فاعلنx4 . وفي أكثر الأحيان يتكون على وزن فعلن. ومن ذلك قول شاعرنا:
يوماتي تعال طل الساحة فرح دنيتنا وفرحنا

وزن الهزج:

وهذا يأتي على وزن مفاعيلنx4 . نجد منه قول الشاعر:
وتبخل بي هدية الصورة نظرة وجهك الهادي
وهكذا فإننا نجد كل أوزان شاعرنا تجري على هذا المنوال دون تكلف أو صنعة، ودون أن يدري ما العروض! وليس في هذا عجب فهي الملكة السليمة وما العروض إلا ميزان يقاس به الشعر وليس ميزانا يكتب به الشعر.
ــــ
انتهى فصل الكلام عن الأوزان الشعرية لشاعرنا ويليه فصل (البلاغة في شعره)

البلاغة في شعره

البلاغة هي تأدية المعنى جليا واضحا ، بعبارة صحيحة فصيحة، لها في النفس أثر خلاب، مع ملاءمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون.

والبلاغة قبل كل شىء، فن من الفنون يعتمد على صفاء الاستعداد الفطري ودقة ادراك الجمال ، وتبين الفروق الخفية بين صنوف الأساليب.
فعناصر البلاغة اذن ، لفظ ومعنى وتأليف للألفاظ يمنحها قوة وتأثيرا وحسنا . فإذا تلمسنا ألفاظ ابراهيم نجدها قوية وحسنة ومعانيه جزلة ولها في النفس أثر خلاب.

ولا أود أن أفصل البلاغة لأبواب ، ولكنني إن شاء الله ، استعرض نصوصا وأقوم بتحليلها تحليلا يدفع بها الى سرج البلاغة وركابها.

حكيت الكافر الفي النار مخلد ينجض جسمو يلقى التاني عاد
ولو ما الدموع الفيها عايم كان جسمي احترق واصبح رماد

يشبه الشاعر حاله وما آل اليه بعد فراق المحبوب وهجرانه له بكافر ألقي في سقر فلا هو بالميت الذي يريحه الموت من العذاب ، ولا هو بالحي الذي يتمتع بما يتمتع به الأحياء . وهذا تشبيه مرسل مجمل، اذ حذف وجه الشبه، وذكرت الأداة. وهي هنا الفعل (حاكى). فالأداة تكون اسما وفعلا وحرفا. أما طرفا التشبيه فهما الضمير في (حكيت) والكافر. وفي البيت الثاني حسن تعليل لا يخفى على أحد، فالشاعر بعد أن صور غزاة دموعه بالبحر، عزى بقاءه في هذه الدنيا للجهود التي كانت تبذلها دموعه في اطفاء النيران التي كانت تلتهمه.

وقد اتضح عمق خيال الشاعر في هذا لبيت فالصورة مزدوجة ، إذ أن المعنى الخيالي لهذا البيت ، كون الدموع بحرا يقاوم حر النار والمعنى المعنى الموضوعي له إن الدموع تريح الباكي كثيرا كما قال ابن الرومي:

بكاؤكما يشفي وان كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي

ويقول ابراهيم في نص آخر:

مخلوقة تراب الجنة والطيب خالطوبو جسيمه
كان حاكى القمر محياها لو ما في القمر ضليمه

وسأحاول هنا تحليل البيتين من الناحية البلاغية ، وأترك الحديث فيهما عن قوة الوصف وبراعته حتى حينه.

مخلوقة تراب الجنة تصوير رائع حقا، إذ جعل الشاعر للجنة ترابا لتقريب الصورة وتقوية الصلة البيانية ، وهي بعد كناية عن موصوف هو بنات الحور، اللائي عناهم الشاعر أي أنها حورية. ولم يقف عند هذا الحد بل جعل الطيب جزءا من تكوينها الحيوي اذ ليس التكحل في العينين كالكحل. ويمضي صاحبنا في تصويره ليضعنا أمام أعظم تشبيه مقلوب (كان حاكى القمر محياها لو ما في القمر ضليمه) فأي تصوير أبلغ من هذا التصوير. وهذا ما سنتناوله لاحقا إن شاء الله. يقول شاعرنا :

يبتسم يضحك يقابلك ويبكي بالدمعات وراك

فقد أتى الشاعر بمعنيين ، ثم أتى بما يقابل ذلك على الترتيب، الابتسام والضحك أمام المحبوب ، والبكاء والنوح من خلف ظهره ،وفي هذا مقابلة ظريفة.

وهناك ملاحظة دقيقة أود أن أثبتها ههنا ، وهي حسن التسلسل الفكري والوجداني في المعنى . يبتسم ثم يضحك، والضحك أعلى مراتب الابتسام، ثم اذا خلا بنفسه يبكي، حتى تدمع عيناه، والبكاء بدمع العين أرفع درجات البكاء. ثم أنظر الى قوله:

قربك حار وبعدك حار ذاتك نور وكلك نار

ترى طباقا في (قربك) و (بعدك)، وجناسا في (حار) و (نار) و(نور)، ثم تشبيهين بليغين في (ذاتك نور) و (حبك نار)، فكم صورة بلاغية احتواها هذان البيتان؟ ثم تأمل معي قوله:

تمر بو سنين يحس مشوارو طال وقصر
وفيهن ما طلع قوزا لقى مخدر
يغالب شوقو وقت الشوق عليه يحر
تشوفو تحسبو درويشا قصدلو ذذكر

وهذه الأبيات كلها تحمل صورا بيانية وبديعية ، واذا استرسلنا في تحليلها فنيا فستقوم مقام هذا البحث أو تزيد ، وكني أكتفي فقط بالإشارة الى الطباق في (طال وقصر) والكناية في (ماطلع قوزا لقى مخدر) والاستعارة في (الشوق عليهو بحر) و(تمربو سنين)، ثم تشبيه التمثيل في (تحسبو درويشا قصدلو ذكر).
وبعد ذلك أود أن أهمس في أذنك عزيز القارئ بهذه الأبيات التي يحاور فيها الشاعر السحاب والمطر والدموع لترى كيف أبدع في تصوير هذا المشهد.

أبكن يا سحيبات ما كفاي بكيت واديكن روى وأنا بالدموع ما رويت
قولي ياسحاب ايه السبب في بكاك بكاك العلي أم لي بكاي بكيت
لو حنيت تشوف وادي الرمال والصيد ايه مانعك تشوفو وفوق سماه عليت
أما أنا كيف أشوف زولا علي بعيد متسود همومو وفوق جحيمو أبيت
صابر ياسحاب حولا وراه الحول عارف يوم وقع في حبو ما سميت
تراك وسط الدموع تضحك بريقك شال أما أنا يا حليلي العمري ما فريت

وصورة أخرى:

التمر بالفرحة صفق وعمر الدارة الكبيري
فوقو قمري ترك نواحو غنى ساير بالدخيري
والرباب فوق قوزنا جافا النومة للدغش البديري
حسو بارى النسمة غرب عدى في بحر الدميري
والقرير باشعاري غنى وليها كتر في الشكيري
أوسلي لابسة خدارا ترقص قالدي مساوي الجزيري

فهذه الأبيات تعكس لوحة فنية وأدبية متناهية الروعة والجمال، ولا أحسبني بحاجة الى تحليلها ، وخوفي أعظم من أن أقصر عن نشر المعاني التي حملها اياها الشاعر. أنظر في قوله:

كيف وصال زولا ما قنع
ونظرو في شوفتك ما شبع
بالعشم في بسمه ان طمع
حكمو كاتل الروح في الشرع

فهذا التعبير يستحق الثناء وهو كناية عن القتل العمد وهو عقاب من يقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق. وليس الشروع في انتظار بسمتها عنده كالشروع في القتل ، وانما بمثابة القتل العمد في الشرع. والصور الجمالية في شعر صاحبنا كثيرة تفوق الحصر والعد. وهناك لوحات كثيرة استطاع شاعرنا أ يحكم ريشته فيها ويجسدها حتى يتلمسها كل عم ضرير.

المحبـوب عنده

إبراهيم شاعر مرهف القلب والشعور ، وَلِهَ بالمحبوب حتي صار المحبوب جزءاً منه في نظـره ، لذلك تجده يقول : ـ

لو يقــــولو ليك خيــالي
في خيـالو بقيت صـورة
ولو يقـــولو ليك بفــارقك
كيف تفارق القمرة نوره
وقال مخاطباً محبوبه :

هم دايــــرين يفرقو قليبي
شـــافو عليك مايـــل
منو البقــدر يفرق النسمة
من زهـر الخمـــــايل
ثم قـال : ـ
يا روحي جيت أودعك هو الزول يودع روحو كيف ؟

وإبراهيم ينظر لمحبوبه نظرة سامية كريمة يحترم فيه كل شيء حتي جفاءه وقسوته عليه أحيانا لذلك نجده يقول :

مهـما ألاقي أنــــا في هـــواك مهـــما انجــــرح
بصــبر علي المي وشقــاي وبحمــل الآلام فـــرح
انا كـم صبـر فــوق الألم داريـت دمــعاً فاض طمـح
وطمنت بي لقيـاك قليب من خـوف فراقـو يسـوي وح
كتمت حبـك في الضـلوع أخفيتــو للناس ما شـرح
راجيـك لامن يــوم تعـود ويعــود معـاك قلبي النـزح
صــدقني ما ممكن أقــول أنســاك حتي ولـو مـزح
كيفن بينسي الـزول حبيب حبـا وقلـيبو علي انشــرح
ما إنت غيمي الفـي هجـير ضـلاني من حـرن لفــح
وياك غيثي داخرك لي رواي كان السحاب بي غيثو شـح
والله إنت دوام معـاي ومعــاك كلما البــال ســـرح
وانا عمري بعدك كلو نـوح وايــامي من بعـدك تــرح
وعزاي شلتك في غناي وكت الزمان بيـك ما ســـمح
خلّدت اسمك في حــروف غنـي الزمـان بيـها وصدح

ألا ترى هذا الوفاء والاخلاص والحب والتقدير الذي يفوق الوصف؟ انظر براعة التصوير في ( ياك غيثي داخرك لي رواي ) . ثم انظـر معي قوله:

واللـه إنت دوام معـاي ومعـاك كلما البـال سـرح
ألا تلمس قوة التصوير ونفاذ الخيال عنده ؟ فالشاعر لا يشغله عن محبوبه شاغل أبداً لأن المحبوب دائماً ماثل أمامه ، أما إذا شغل باله شاغل فهو المحبوب نفسه لأنه في هذه الحالة قد يكون قد ذهب بخياله للمحبوب . إنها صورة من أبدع الصور الوصفية .

وإبراهيم يقول :
اتعــذب واقــول تســعدني منك يا جميل يوم ليمة
واتقبـل جفـاك محـنة هجـرانك يزيــدني عــزيمة
آمالي البنيت علـيك مالــو الليــــلة در تحطيــمة
أرحـم سـيب صـدودك حبـي ياما عليك قلوبنا رحيمة

أما إذا انتقلنا لوصف المحبوب في شعره فإننا نجده لايميل كثيراً للوصف الحسي فهو أقرب للشعراء العذريين منه إلي الشعراء الحسيين ، وقد برع في الوصف براعة لا نظير لها عند كثير من مبدعينا .

انظــر قوله :
مخلوقة تراب الجنة والطيب خالطـوبو جسيمة
كان حاكى القمر محياها لو مافي القمر ضليمة

فهذا البيت قد تطرقت إليه آنفاً من الناحية البلاغية ، أما في مجال الوصف فإن الشاعر استخدم خيالاً خصباً ، وصور لنا المحبوب في أبهي صورة ممكنة ، فشعراء العرب كانوا يشبهون وجه المحبوب بالقمر ، وأحياناً يقلبون التشبيه ليشابه القمر وجه الممدوح ولكنهم لم يصوّروا لناكيف أن وجه المحبوب صار أبهي من القمر لغشاوة سربلت وجه القمر . وقد ذكر الحلبي في كتابه حسن التوسل ما سماه تشبيه التفضيل وأورد بيتاً من الشعر يقول فيه صاحبه :

حسبت جماله بدْراً مضــيئاً
وأين البدر من ذاك الجمال ؟

فهذا الشاعر لم يزد علي أن شبّه وجه محبوبه بالقمر وهذا تشبيه مألوف ثم استدرك ليثبت أن المحبوب أجمل . ولكن لم يوضح العلة الطبعية التي بها تفوق المحبوب أو قصر عنه بها القمر !

أما شاعرنا فقد أوضح أن القمر كان محتملاً أن يشبه محبوبه ـ ودون أن يفوقه حسناً ـ لولا أن وجه القمر قد اعترته بعض الظلمة والغشاوة . وهذا قمة الروعة في التصوير .

ويقـول: ـ
خدودا الفي الربيع فتح نضارو ازداد
خاربات قلبي حد ماتاب يجيهن صـاد
بسيماتا البَفـِرْ بالقبلتين جبـــــّاد
بدري من الضحي شابك سحابو وقـاد
حسارا الفي الضلوع جمرا يهب وقاد
وشوقا يهيج يسل الروح من الأجسـاد

العيـون في شعره

العيون الساحرة الخلابة هي بؤرة الجمال ومفتاحه عند كثير من الشعراء والمحبين فهم يرون أن مركز الجمال هو العيون الكحيلة بطبعها لا المكحلة . فيتركز إحساس الشاعر وإعجابه فيها . يبدأ تأمله الحقيقي منها وينتهي به المطاف عندها . ولكنها رغم ذلك لم تكن سر الإبداع عند شاعر أو مبدع أياً كان ـ في عصــرنا هذا وفي بلدنا هذا ـ مثلما كانت عند إبراهيم ابنعوف . إبراهيم كان يبدأ تأمله بالعيون ويختمه بالدهشه ليبدأ قصيدته بالعيون ويختمها بصورة مدهشه . مما حدا به أن يكتب قصائد كاملة في عيون المحبوب واصفاً إياها بالسعادة وراحة الضمير تارة ، وبالسهام والرماح والنبال ، وكل ما هو مصيب وقاتل مرة أخري ، ثم إنها هي الدنيا وهي الكون وهي الحياة تارات وتارات .
ولم تكن هذه الظاهرة التي نتحدث عنها في شعر إبراهيم ظاهرة جديدة ، فكثير من شعراء الجاهلية وصدر الإسلام ، والعصور التي تلتهما قد غنوا للعيون ، أفلم يكن بيت جــرير :

إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

أعظـم بيت قالته العرب في الغـــزل ؟ ألم يقل بعض شعراء العصر العباسي ؟
عيـون المهـا بين الرصافة والجسر
جلبن الهوي من حيث أدري ولا أدري

ثم انظـر إلى أبي فراس الحمداني وهو يقول : ـ

كيف اتقاء جآذر يرميـنا
بظبى الصوارم من عيون ظباء
وفرائد مثل الدجي يسقينا
كأسين من لحظ ومن صهباء

فأنا لم أقل إن إبراهيم هو أول من ابتدع هذا الفن ، أو هو خير من أجاد فيه ولكنه علي أي حال شكل عنده ظاهرة ملموسة . فقد أحب العيون حتي استطاع أن يري الدنيا من خلال عيون الحسناوات ، وأفتتن بالجمال وتعلق قلبه به حتى قصرت أخادعه وغار قذاله فكأنه متربص أن يصفعا .

يقــول في العيون :

عينيك دنيتي التشـــقيني فيها القــي الســعادة ارتــاح
مره تجــود علي تشـفيني مرة تــزيد قلــيبي جـــراح
فيها تمــر تعدي سنــيني بـي آهـــاتها والأفـــــراح
يــوما فيه تنـعم عـــينييــوما كلـــو اقـضي نــواح
بي كدي برضـو ما هاميني لالا ولا شـــبابي الــــــراح
طاوي جراحي كاتمو انيني عارفــو عــذابي ليها مبـــاح
كلما اصبح صباح تلقيـني الشــوق زاد قلــيبي قمـــاح
والقي عيـــونك المازاني زادت فــوق سماحا سمـــاح
حالفه علّي دار تفنيــــني برضي ابسـم واقــولها صـاح
مادام هو العلي راضـــيني كيف في احكاما أدورلي سماح
لالا وحاتا وحيات ديـــني لو في مـوتي ليـها صــــلاح
ما بقبل كمان ينهــــيني بالمـــوت غير سلاحا سـلاح

فهذه القصيدة من جياد قصائده ، وجياد الشعر الشايقي وقد رسم الشاعر صورة بديعة لما أصابه من سهام المحبوب ، ولم يكتف الشاعر بهذه الصورة الرائعة بل أضاف عليها قوله :

عينيك ديل قلبي هن الأذنــو
اللــه يسامحن كان عذبنــو
مسيكين في بحور الشوق رمنو
تايـه فــوق دروبــن ودرنــو
مات بالشوق عليهن ما بكنـو
وماظــن فوق تريبتو يريحنـو
بقيت ابكي وبكايا الناس تظنو
تقول ود ابنعوف عاد ليهو جنو
ديلا ماعارفين عيونك ما بحنو
لاون قلبـي لامن هلكنــــو

فانظر مدى بعد نظــر هذا الشاعر ، أفبعــد الموت تلاحقه عيونهن بالعذاب ؟ . هذه صوة بديعة للغاية .

تطـــيره

من يتابع قصائد إبراهيم لا يخفي عليه وإن تغافل الطيرة التي تعتلي وجهه . ومن لم ير إبراهيم عياناً لايكاد يصدق أن مثله يبتسم ، أو حتي تدخل الفرحة قلبه لأن جل شعره يصف حزنه وبكاءه وتكدّره وظلم زمانه له ، وشقاءه وما يصيبه من نبال المحبوب تارة وهجرانه تارة أخري . فهو دائماً يري الدنيا في ثوبها الأسود الكئيب . وإذا أطلّ عليه صباح جديد لا يدخل الأمل ثناياه فهو كإمري القيس الذي يرجو الليل ان ينجلي ولكن دون أمل في خير الصباح . فيقــول : ـ

أنا الليلي ونهاري علي واحــد
ما بشوف في الدنيا من غير السـواد

ويقــول : ـ
الناس في سعادة وبهجـــة
وانا بحـر الهموم طمــاني
وين قارب نجاتي آخـلــقو
واللـه انـا دايمـا الآخـراني
اهرب من دناي ويـن أمشي
ياريت الأمــاني أمــــاني
طالما الدنيا ياها الدنيــــا
وطـــالما ياني ياني أنا ياني
ياسجم السجم يابخـــتي
ياحظـي المولي وفــــاني
كيفن في الشقاوة عتـرت
والخير فاتـني واتعـــداني
آه يامــــرتي المليــوكة
يانار قيدي تاني وتــــاني
من ألـماً مقطع قلــــبي
في جواي كاتل انســاني
آه ياقدري كـون في همي
راجيك من قبل ترجــاني
هم واحد يودر ســــيدو
مطبوقات عليّ تمـــاني

ألا تري أنه بعد أن فكر في النجاة حز في نفسه اليأس بشعوره أنه في مؤخرة الركب ؟ . ألا تري أنه بعد أن فكر في أن يلوذ بالهرب حزّ في نفسه اليأس ، بشعوره أنه لايجد داراً خيراً منها ، ولاجدوي لهروبه لأنه سيقابل نفسه وروحه وجسده بنفس الهيئة التي كان عليها قبل الهرب ، وهذا ما عناه أبو العلاء بقوله : ـ

أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسـأل عن الخبـــر النبيث
لفقدي ناظــري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث

وأحياناً يتغلب اليأس والاستسلام علي الشاعر فيقول :

سيري يا اقداري سـيري
سيري بي محـــــل تسيري
شن بهمك في عــذابي
أصلي زول مجهول مصـيري
كت بأمل ماني عــارف
حالتي بيك تكون عســيري
تطفي شمعات الأمــاني
تخلي كلو ظلام عمــــيري
شن بدور بالفـرحة تـاني
وراحتي في الدمعة الغزيــري
وعمري مكتوب لي أنوحو
ودربـي رمّاضـة وهجيـــري

فإبراهيم شاعر حزين باكٍ ، متشائم ، وساخط علي نفسه وحياته أشد السخط والحزن والبكاء والتشاؤم لايرجو من الدنيا صلاحاً لحاله رغم أن الأمل أحيانا يظلل جانباً من كآبته وبؤسه ويمحو قليلاً من طيرته .

كوسي لي الخلاص من بدري
في حبك ترانـي غــرق
عارف نفسـي مابلقـــــاك
سـاكت فيـك متعـلق
قالوا الدنــيا يامحــــبوبة
تجمـع يوم ويوم تفـرق
بس نان مالا مابتجمــــعنا
والله ده ماهو متحـقـق
صـــح ماليها أمان واللــه
لي مضـيقي المشِـــقّ
مادالي اليمين تضحـك لي
بي إيـدا الشـمال اتعـق هاك شكوايا يا محبــــوبة
لو قلبك علي يــــرق
ديل أربــع سنين متـــوالي
من محني وشقاي ما فق
خوفي شقاي قبل ألقــــاك
يمحق لي عميري محق
وأجيك ساير علي الأكتـاف
عزب لا حني لا جرتق
ساعة الناس تنوم تتهـــني
والعين للمنـام تســـرق
ألقي رويحتي فوق المـــلي
شقيش ما اتقلب بي شـق
آه من دنيــــتي وأقـدارها
ينصـبـقن علي صـــبق
وساقة الهم تسوق في راسي
تتعاقب بلا تتــــــــق

وهذه القصيدة خير دليل علي طيرته وبؤسه وخضوعه واستكانته . وإبراهيم قريب من أبي العلاء في تطيره وتظلمه من الحياة لدرجة جعلتنا نجد في بعض معانيهما تقارباً شديداً . انظـــــر مثلاً :
الغـرام قفـلت بابــو عـليّ طـــل
فكـّر في الشـراد ما لقيت محـــلة
كرهت الدنيا حالتي بقت ممــــلة
مالي دون خلق الله فوقي وتحتي ملة
ثم انظر قول أبي العلاء : ـ

وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء

وقــوله : « كرهت الدنيا حالتي بقت ممــــلة » مأخوذ من قول أبي العلاء:
تعب هذه الحياة فما أعـــ
جب إلا من راغب في ازدياد

المعاني التي أخذها الشاعر من ديـوان العرب

إبراهيم شاعر مثقف ومطلع . استفاد كثيراً من الشعر العربي قديمه وحديثه ، ونهل من دواوين الشعراء علي اختلاف عصورهم وميولهم الأدبية وأهوائهم . وقد حاول إدخال كثير من المعاني التي قصدوا إليها في شعره ، رغم اختلاف البيئة والعصر واللغة . ولم يقف إبراهيم عند ديوان العرب ، فقد حاول أن يفيد من بعض معاني القرآن الكريم التي تحدثت عن العذاب والوعيد في أشعاره .

ولعل القارئ الكريم يلمس هذه التصرفات الأدبية الواسعة الانتشار في دواوين الشاعر بصورة لا تحتاج إلي مزيد إيضاح ، وهي تصرفات لا تخرج عن كونها استفادة غير مباشرة من المعاني العظيمة التي أثبتها بعض الشعراء .

ومن الطريف في هذا الموضوع أن أول أبيات استهل بها شاعرنا أحد دواوينه كانت مما أخذه عن أبي تمام ، إذ يقول : ـ

أهديك يا أحلى الزهور نداوة شوقي الذي ملأ الضمير فهزني
وأقـدم القلب الرهيف هدية يامن جعلت القلب أول مسكن

وفي هذا يقول أبو تمام :

نقل فؤادك حيث شئت من الهوي ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفـتي وحنينه أبـــداً لأول منزل

ويقـــول :

البحبك ما بيقول ليك حقو إنت تحس بــــــراك
اللـه يعـلم يا حبيـبي قـــربي واشتاق لي لقـــاك

وهو ما قصد إليه الشاعر العربي بقوله : ـ

ولشد ما لاقيت من عنت الجوى
قرب الحبيب وما إليه وصول

أما إذا تابعنا بشئ من التأمل أبياته : ـ

قالو الدنيا يا محبــــوبة تجمــع يوم ويوم تفـرق
بس نان مالا مابتجمعــنا والله دا ما ماهو متحقق
صح ماليها أمان واللـــه لي مضيقي المشـــق
مادالي اليمين تضحك لي بي إيدا الشمال إتعــق

فإننا لا نتردد في أنها مأخوذة من قول الشاعر العربي :

ياخاطب الدنيا الدنية إنــــها شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متي ما أضحكت في يومها أبكت غداً تباً لهـا من دار

وإبراهيم يقــول : ـ

بس قولي متين شفناك
متين في الحي بقيتلنا جار
متين الإلفة تمت بينـا
لمـا الإلفة تبقى حســار

وهو معني رائع أخذه من قول أبى الطيب : ـ

بأبي من وددته فافتـرقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولاً فلما التقينا
كان تسـليمه عـلى وداعـا

وأخذ من أبي الطيب قوله : ـ

أروح وقد ختمت علي فؤادي
بحبي أن يحل به ســواكا
فقـــال : ـ

كيف أعشق سواك وقلبي عندك
ومعاك لا عندو قدرة ولا مراد
ثم إن إبراهيم يقول : ـ

تسـألي بالبسيمة التـيهة كيف بالله عامــــل
أخاف حزنك واخبي البي معاك أضحك واجامل

وهو عين ما قاله الشاعر : ـ

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب
فالطير يرقص مذبوحاً من الألم

ويمضي شاعرنا فيقول : ـ

ولو كان ما الدموع الفيها عايم
كان جسمي احترق واصبح رماد

وهو المعني الذي سبقه اليه الشاعر القديم : ـ

يا محرقاً بالنار قلب محبه
مهـلاً فإن مدامعي تطفــــيه
ويقـــول أيضاً : ـ
ماني خايف مــوتي بي موتي اقتنـــع
خوفي كلو عليه يـوم في الحب يقــع
وفجأة يلقي قليبو لي غــيرو اتقلـــع
ويلقي نفســو يقاسى طول ليلو الهجع

وهو من قول الأعشي : ـ
علقتها عرضاً وعلقت رجلاً
غيري وعلق غيرها الرجل

وإبراهيم يأخذ من جميل بثينة قوله : ـ

يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهـاد بعـدهن أريـد
لكل حديث بينهن بشــاشة
وكل قتيل عندهن شهـيد
علقت الهوى منها وليداً ولم يزل
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
ويقــول : ـ
صريع بالحب خلاص أيامي تمت
وخلاص في سبيلك أكملت الجهاد

حضرو نعشي واكتبــو فوق قبري
شهـيد الحب قتيـــلك يا وداد

وبيت جميل الثالث ، تناوله إبراهيم أيضاً في قصيدة أخري وهو ما يدل علي أن إبراهيم قد وقف علي هذه القصيدة وأعجب بها وهذا واضح من قوله : ـ
ياملاك جافيتني وهجـــــر
وليك عشوق من زمن الصغر
الغرام قبـــــــلي كم ودر
ضـاعو ناس قيس وابن معمر

ونحن لم يكن ليهمنا إن كان إبراهيم قد اطلع علي كل هذه الأبيات التي أخذ معانيها ، أم كان ذلك من قبيل المصادفة وتوارد الخواطر ، ولكن بالقطع يهمنا انسجام هذه المعاني في أشعاره ـ رغم اختلاف العصر والظروف ـ انسجاماً يجعلها تجد مكانة خصبة بين أشعار من سبقوه أو عاصروه أو أتوا من بعده من شعراء منطقته المجيدين .
وهناك أمثلة كثيرة لا أرى أن المجال يتسع لذكرها ههنا ، فآثرت حفظها إلي أن ييسر الله لي كتابة بحث آخر عن هذا الشاعر البحر المحيط .
هذا ، ولم أرم بهذا البحث ، إلي عمل دراسة أكاديمية جادة ، تراعي القيم الأدبية والضوابط النقدية ، بشكل دقيق ، بقدر ما رميت إلي إثبات بعض الملاحظات ، التي عرضت علي ، وأنا أتصفح ديوان الشاعر ، في إحدي رحلاتي الخاصة ، فآمل أن تكون بداية طيبة ، لمشوار بحثي متكامل ، عن هذا الشاعر الفذ ، وغيره من شعراء المنطقة المغمورين .

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.