الرمز والبيان في أوزان السر عثمان

 تصدير

هذا البحث من البحوث الظريفة لأنه بحث جاد وهازل في آن واحد  وقد نظر الكاتب من منظور الشاعر » أبي الفتح البستي « الذي كان يقول :

            أفد طبعك المكدود بالهم راحة

                        قليـلاً وعلله بشىء من المــزح

            ولكن إذا أعطيته المزح فليكن 

                        بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

وهذا البحث موضوعي وشيق ، وفيه مسحة أكاديمية محببة إلى النفس ، وفيه تظهر ثقافة الكاتب الذي يبحث ثقافة الشاعر فتختلط الثقافتان وتمتزجان فلا تكاد تدري من هو الكاتب ومن هو الشاعر .

والبحث متقن وطريف ، وفيه نغمة غنائية تمتع النفس وترتفع بالذوق وتحلق بالروح ، وفيه تظهر شفافية الكاتب الذي يثبت شفافية الشاعر فتتعانقان فلا تكاد تدري من هو الكاتب ومن هو الشاعر .

والبحث كما هو واضح ، حلقة أولى من سلسلة دراسات سماها صاحبها ، محاولات نقدية في أدب الشايقية ، تتناول شعراء  أسهموا في بناء التراث ، فأطربونا ردحاً من الزمان  . والشاعر الذي قدر له أن يقوم بضربة البداية ، هو شاعر شاب عرفته المديرية الشمالية منذ أن كان تلميذاً  ، وابتهجت بأشعاره حين أصبح أستاذاً وحنت إلى أشعاره حين اغترب فحن إليها . إنه السر عثمان الطيب الشاعر المرهف المطبوع الرامز الذي تملأ أشعاره الحركة الدؤوبة التي لا تعرف الملل والعاطفة الصادقة التي لا تعرف التلوين والحنين الجم الذي  يندر أن يوجد له مثيل .

ويتعرض البحث إلى أشعار الشاعر فيقسمها إلى مراحل ثلاث ، أولها أشعار الصبا ، وثانيها أشعار الدراسة في الصعيد ، وثالثها أشعار الغربة  وهو تقسيم نموذجي ؛ لأن كل مرحلة كما هو واضح قد تركت بصماتها القوية على شعر الشاعر .ويتعرض البحث لجوهر القصيدة عنده فيوضح أن عاطفته فيها صادقة وحنينه فيها جم موضحاً أن القصيدة تمتاز بسهولة اللفظ وانسيابه وعمق المعنى وروعته وانتظام الوزن وموسيقاه .ويتعرض البحث للحركة الدؤوبة التي تملأ أشعار الشاعر فيحرك مشاعر القارئ التي لا تهدأ وهو يواجه هذا الفيض من الحركة فيقول » فالشعر الذي لا تملؤه الألفاظ والمعاني والأنغام حركة باعثة على الجمال الفطري والارتياح النفسي فهو حي كميت « .

والبحث يتناول الرمز الذي يملأ أشعار الشاعر ، ولكنه الرمز الذي ينطبق عليه منظور » ابن رشيق « فلا هو إلى الغموض الذي يبغضه  القارئ  ولا هو إلى الوضوح الذي يجرد الشعر من أهم أسلحته .

والبحث فوق هذا وذاك يتناول حزن الشاعر العميق وحنينه الجم فهو في حبه حزين وفي رثائه حزين وفي إخوانياته حزين ولكنه الحزن الذي يؤشر إلى نقاء الصورة الفنية عنده ويرتبط بصدق العاطفة .والشاعر يحن إلى الوطن ويحن للأهل ويحن للمحبوب ويحن إلى كل شئ ولكنه الحنين الذي يمتزج بطيبة الأهل وتراب الوطن ووفاء المحبوب ، فلا تزال تلك المسحة الحزينة الدالة على الحنين تلازمك وأنت تعالج الموضوعات المختلفة فتسبح بك في عالم من الصدق لا حدود له .

والشاعر كما هو واضح » جبراني « النزعة والمزاج فهو كاتب بارع وشاعر مطبوع ، وبالمثل كان جبران .وهو في حبه طاهر وفي نفسه عفيف وفي عاطفته صادق وهكذا كان جبران ، وكلا الشاعرين يتحلى بالخيال العبقري والحس المرهف .

وكل هذه الصفات عامة ، قد يشترك فيها الجميع ، إلا أنه ومع ذلك فالعلاقة الجبرانية واضحة كالشمس في مسحة الحزن العريضة التي تظهر على الوجهين  فكلاهما يظلله الحزن بظلاله الزرقاء فلا يكاد أحدهما يخرج على حزنه حتى في الحالات التي يعبر فيها عن الفرح   ولذلك فليس غريباً أن تجئ قصة  جبران  المأساوية » الأجنحة المتكسرة « مشتركة مع قصيدة السر » بت البلد « في التعبير عن مأساة الفتاة التي تحب ، فتحول الثروة والأطماع دون حبها ، وكل ذلك يجئ في طرح مأساوي محكم نثراً وشعراً فيظهر مزاج الشاعر المتفتح مستمداً من مزاج أستاذه الكاتب جبران  المتمكن .

وللشاعر ديوان مطبوع بعنوان » آه يا بلد « دفق فيه آهاته الحارة ؛ ذلك أن للآهة عند الشاعر معنى خاصاً ولا تكاد فكرتها تفارق مقاطع شعره الحزين .والموسيقى الداخلية من أبرز الأشكال التي يعرفها ذلك الشعر المتفرد ومن أمثلتها » قلبي ولهان « الغنائية التي أضاف لها الفنان محمد جبارة أبعاداً سحرية بصوته الأخاذ وأدائه المتفرد .

والشاعر بعد علائي المنهج ، فهو في الغالب يعمد إلى اللزوميات فيستريح عند  أزهارها ويقتطف من ثمارها :

   يا وطن يا ضل مقيلنا  ياجمل شيلة تقيلنا  يا التسامحنا وتقيلنا

ومن أمثلة ذلك أيضاً :

شفع يقومو دايرين يعومو هنـاك واحد في القيفة قاعد قالع هدومو

والبحث يعج بالإشراقات،انظر قول الكاتب » ولكنها على كل حال إشارات خضراء أطلقتها لتحرك قطار البحث الذي توقف كثيراً في منطقة الاحتراس « .ثم انظر إليه يقول » وها أنذا استعرضت نيفاً وخمسين نصاً في متن البحث ، ولم أر نفسي إلا كقابض على الماء خانته فروج الأصابع ، فالشاعر عميق عميق ، والمادة بحر هائج مائج ، وأنا ضعيف منهك مكدود .

وانظر إلى الكاتب وهو يقول :» ولد الشاعر في أرض شاعرة معطاءة  من يراها بمنظار الأدب والفن يجد ذرات ترابها موزونة ومقفاة ، لا يفصل بين نيلها ورمالها إلا ما يفصل بين مفاتيح الشعر وخواتيمه من سحر وروعة وجمال «.

ثم انظر إلى قوله » فالشاعر يمهد أحياناً بالسكون ليعبر عن الحركة ، فظلام الكون كناية عن السكون وحلم الناس كناية عن النوم الذي هو كناية عن السكون أما صاحبنا فيصاحبه الألم الذي هو أقوى صور الحركة والأرق الذي هو عدو هذا السكون « .

والبحث مشرق كأحسن ما يكون الإشراق ، ولكني اكتفي بهذه الإشراقات .. وأملي أن يتحقق الأمل المنشود والحلم الجميل بظهور كل الأعمال الأدبية المرتبطة بشعراء المنطقة فكلهم أفذاذ ، ومن سار على الدرب وصل،  والله المستعان .

                                         أبو مدين الطيب البشير

                                         رئيس إدارة الثقافة القانونية

                                          معهد التدريب والإصلاح القانوني – 1991

المقدمة

أيها القــارئ العــزيز :

إن العمل الأدبي مهمة شاقة شاقة ، ولا سيما إذا كان مجاله التنقيب في مادة تفتقر إلى المراجع الأدبية والجهود السابقة . وهذا هو حال كل الأعمال التي تصدر من لهجة محلية ، وذلك لاعتمادها على الطبع والعرف والجهد الشخصي لا على القواعد والأسس والأصول المدروسة .

ومن هنا كان خوفي من دراسة أشعار السر أكبر من حرصي عليها . وقد ترددت كثيراً في ذلك حتى استوى الإقدام والإحجام عندي ، ثم عكفت بعد ذلك عاماً كاملاً على ديوانه حتى وفقني الله تعالى إلى هذا العمل الذي هو بين يديك .

ولا أحسب أنني بهذه الصفحات ، قد تعرفت الشاعر أو أديته حقه الذي هو له فيما قدم من إبداع ، ولكنها على كل حال ، إشارات خضراء أطلقتها لتحرك قطار البحث الذي توقف كثيراً في منطقة الاحتراس .

وها أنذا قد استعرضت نيفاً وخمسين نصاً في متن هذا البحث ، وما أحسبني إلا كقابض على الماء خانته فروج الأصابع . فالشاعر عميق عميق عميق ، والمادة بحر هائج مائج ، وأنا ضعيف منهك مكدود .

ولعله من دواعي سروري ، بل ومن الواجب أيضاً ،أن أقدم الشكر والعرفان في بداية هذا البحث ، للأستاذ الأديب ، عبد الرحمن محمد صــــالح » مامان « والأخ الشاعر عبدالله محمد خير ، والأخ المبدع الفنان عادل عثمان الطيب والأستاذ عامر عثمان أحمد لما قدموه لي من عون ونصح وتحفيز ، حتى خرج هذا البحث وكأنه بضاعتهم التي أردها الآن إليهم . والشكر موصول لكل من قدم فكرة أو رأياً أفاد منه البحث بصورة مباشرة أو غير مباشرة .

وختاماً أرجو أن يكون في هذا العمل المتواضع ما يدعو النقاد والباحثين وأصحاب الأقلام الأدبية الطيعة إلى البحث الجاد الدؤوب ، وأخص منهم  على سبيل المثال  الأستاذ محمد سعيد دفع الله ، والباحث محجوب كرار ، وأسأل الله أن يوفقهم لإبراز هذه المجهودات الأدبية الرائعة التي صادرها الظلام  واحتوتها الغفلة في زمان أضحت فيه الكلمة القوية أمضى سلاحاً ،بل  وأصدق إنباءً من سيف أبي تمام .

                                                                                                                                                                                                                                            د. توفيق الطيب البشير

                                                                                              الرياض /  يناير – 1990م                                          

   مدخل إلى الشاعر                 

السر عثمان الطيب ذلك الشاعر الإنسان ، الذي تعرفه الحروف حق معرفة ، وتبره المفردات أصدق بر ، وتحبه الأوزان والقوافي خير حب ، ما هو إلا شاعر بسيط ، يحب أهله البسطاء ويصور حالهم من خلال ما يصّور به نفسه وهو شاعر لطيف النفس والمعشر ، خفيف الروح والدم  ، حاضر البديهة والشعور ، قوي الانتماء حسن المنطق جيد الابتكار ، ذو أدب وفن .

أحب أهله ووطنه حُبَّ من لا يعرف البغض وأوفى لهم وفاء من لا يعرف الغدر، وهو فوق هذا كله شاعر مطبوع لا يعرف التكلُّف ولا يميل إلى النظم الأجوف الذي عليه كثير من شعرائنا اليوم .

لفظه بسيط جذاب ، لغته عذبة سلسة ، معانيه قوية عميقة ..أما قصائده فنوابغ جياد . كان مدخلي إلى دراسة أشعاره ، سرعة تأثري بلغته الشعرية الساحرة إذ لاتقع العين على لفظة ، إلا وكان البحث عن بدائلها من أصعب الأمور  ، ولا يقع الخاطر  على معنى ، إلا وكأنه تصوير دقيق لما يعانيه هذا الخاطر نفسه  من ألم ، وكأن الشاعر لايصور نفسه وإنما يصور كل المجتمع الذي يعيش فيه على اختلاف ما تنطوي عليه النفوس من ألم وأمل وسعادة وشقاء وأنس ووحشة وفأل وطيرة وراحة وعذاب ! .

ثم كان اختراق عالمه ، بسبب خلو قصائده من كل تقليد أعمى ، وما تمتاز به من تفرد خاص في مجال الكلمة التي ينشدها .

ولد الشاعر في أرض شاعرة معطاءة ، من يراها بمنظار الأدب والفن يجد ذرات ترابها موزونة ومقفاة ، لا يفصل بين نيلها ورمالها إلا ما يفصل بين مفاتيح الشعر وخواتيمه من روعة وسحر وجمال .

وهي منطقة القرير التي عرفت منذ ميلادها الأول بخصوبتها في كل شئ وهي الأرض التي ولدت من قبل الشاعر الأستاذ حسن الدابي ، والشاعر الأستاذ محمد سعيد دفع الله ، وغيرهم ممن سبقوهم أو لحقوا بهم فكانوا أعلاماً ومنارات بين شعرائنا المجيدين في منطقتنا على امتداد أرجائها .

كان ميلاده فيها عام 1951م ،حيث تلقى تعليمه الأولى بها ، ولم يغادرها إلا حين سافر لأم درمان ، ليتلقى تعليمه الثانوي بمدرسة محمد حسين .وكانت هجرته تلك في تقديره غربة فكتب قصيدته المشهورة :

         ساقتنا الظروف يا صاح    لي دار العـذاب والغربة

         فارقـنا القـرير نتباكــا   أحكام الزمن صح صعبة

وهي قصيدة رائعة صور فيها الشاعر المرحلة الأولى من حياته التي قضاها بالقرير ..كما صور عشقه وحبه لبلده وقال:

         نرجــع لا متين لقـريرنا    يفرح عاد قلـيبنا الحب

         نيلو وروض نخيلو الزاهي   حاضناه الأراضي الخصبة

تخرج الشاعر في كلية التربية جامعة الخرطوم حاصلاً على شهادته الجامعية في اللغتين الإنجليزية والفرنسية عام 1975، وقد كان لدراسة اللغات الأجنبية أثر جيد على ثقافته وفنه وصقلٌ لموهبته مما جعله مجوداً لما يقول والشاعر قبل هذا كان يكتب الشعر وهو صغير، وكان في شعره الأول فن لم يقل كثيراً عن شعره الذي يكتبه الآن لولا تأثير هذه الثقافة على أدبه وإن كان تأثيرها كتأثير اللّمسات الأخيرة التي يضعها النقّاش على لوحته والتي لا يحس بها إلا الخاصة من أهل الفن أنفسهم .

وشاعرنا هذا على قوة أشعاره وعمق معانيه ، نجد فيه تواضعاً لا نكاد نلمسه عند كثير من الشعراء ، وصفة التواضع هذه أحسبها صفة أساسية للشاعر الفنان الذي يمنح روحه الشفافة قدرها ، ولعل الذي يختلف معي ههنا مشيراً إلى الاعتداد بالنفس الذي لازم فحول الشعراء ، كإمرئ القيس وجرير والفرزدق وأبي الطيب وأبي العلاء ، وغيرهم ، كصفة لازمة للمجيد من القول ، أرى أنه قدْ نسي أن لهذا الاعتداد بالنفس ظروفاً وأسباباً خاصة بهم ، وليس لكونهم شعراء فحولاً، ولنعد جميعاً إلى سيرهم ، لنلمح هذه الأسباب .

وشاعرنا هذا بعد أن قضى ما يقارب عقداً من الزمان في مدينة أم درمان وكتب في هذه الفترة عدداً كبيراً من قصائده الجيدة بدأت  هجرته الحقيقية إلى خارج الوطن فبدأت أشعاره وأنا أسميها  إن سمح لي بذلك  أشعار المرحلة الثالثة والتي قال فيها :

            يا بلـدي البريــــــدك أنا

             عشت الغـربة تسـعة ســنة

            ورثت روحي هــــم  وعنـا

            ما شف يــوم سعادتي دنــا

            كـل أملي إنكتبلـو  فــــنا

            وما لقيت  غير قنـاعتي  غـنا     

 المرحلة الأولي والثانية :

ولتوضيح ما سبق من قول فقد قسمت أشعاره إلى ثلاث مراحل ، ولا أقصد بهذا التقسيم درجات النمو والتطور التي طرأت على مستوى شعره في صباه وشبابه ، أو عند تلمذته وبعد أستاذيته ، وإنما أعني المؤثرات التي  نتجت عن تحركات الشاعر ، وتنقله ودورها في توجيه ما يطرقه من موضوعات .

فالشاعر كما أسلفنا قضى بداية حياته ومقتبل عمره في بلدة القرير فكانت حياته يبن أهله وأحبابه حياة طيبة .. ثم هاجر بعد ذلك لأم درمان طلباً للعلم ، وهنا بدأ الشاعر يفقد أشياء كان يجدها ، وبدأ يحس بآلام الفراق وحرارة الشوق لبلده ومسقط رأسه ، ثم بعد ذلك هاجر خارج البلاد طلباً للعمل ، لذا  جاء تقسيمنا لشعره بناء على هذه المؤثرات .

والمرحلة الأولى هي مرحلة الصبا الأول والتي لم يكد الشاعر يغادر فيها مسقط رأسه وفي هذه المرحلة لم تكن أشعاره معلنة فكانت مما يحتفظ به الشاعر لنفسه أو ربما لم تشتهر وذلك لأن الشاعر نفسه لم يتخذ مكانه  الذي اتخذه فيما بعد  من الذيوع والشهرة وكل ما يهمنا في هذه المرحلة أن السر كان يقول الشعر ويستحسنه وكذلك يحسنه .

أما المرحلة الثانية وهي المرحلة التي تبدأ بسفره لأم درمان وتنتهي بسفره للخارج فإنها تمثل مرحلة هامة جداً في حياة الشاعر الشعرية وقد اتخذ الشاعر فيها مكانته التي هو عليها الآن .

وفي هذه المرحلة كتب مئات النصوص في أوجه الحياة المختلفة وعالج عدداً كبيراً من القضايا والمشاكل والمفاهيم في الريف وظهر اتجاه الشاعر الرمزي في معالجة وتصوير قضايا المجتمع الذي هو جزء منه . وسنتعرض في هذا البحث ، إن شاء الله، إلى عدد من قصائد هذه المرحلة .

 المرحلة الثــالثة  :

أما المرحلة الثالثة فكما سميتها آنفاً ، فهي مرحلة الهجرة إلى خارج الوطن والتي جسّد الشاعر قضاياه كلها ومن ثم قضايا الاغتراب وآثارها على شبابنا ، ومن ثم لجأ الشاعر إلى أسلوبه العاطفي الرصين في تصوير حاله وحال المهاجرين عن أوطانهم وما يلاقونه من آلام وما يحسونه من شوق لبلادهم فضلاً عن تناوله لقضايا الريف النائي كما يتصوره هو من واقع معايشته له ولم ينس شاعرنا في هذه المرحلة أن يتعرض مرة أخرى لقضايا طرحها في المرحلة الثانية ولكن بمفاهيم جديدة وبعد جديد ونظر ثاقب .

وللشاعر ما يربو على الثلاثمائة قصيدة ، وصدر له ديوان شعراسمه » آه يا بلد « وهو ديوان جيد وفّق فيه إلى اختيار الكثير من روائعه ، وهناك مجموعة لا يستهان بها في انتظار أسنان المطبعة .

وسأحاول فيما يلي من صفحات  إن شاء  الله  أن ألقي بعض الظلال على بعض قصائد الشاعر من غير توسع ولا إطالة وأسأل الله أن يوفقني لإثبات بعض ما ذكرته مجملاً فيما مضى من حديث .

الشكل العام للقصيدة

تمتاز قصيدة السر بسهولة اللفظ وانسيابه ، وعمق المعنى ورقته ، وانتظام الوزن والموسيقى.. كما تمتاز بوضوح الأفكار ووحدة الموضوعات وهذا ما يظهر جلياً على مسرح كلماته الذي يشهده جمهور غفير من المتذوقين والمعجبين.

جوهر القصيدة : 

فجوهر القصيدة هو الفكرة التي تدور حولها المعاني وتنبني عليها أجزاء القصيدة من وزن وقافية .. وأهم ما يجعل الفكرة فكرة شعرية  إن صح هذا التعبير  هو اعتماد الشاعر على الطبع وكراهة الكلفة وهذا مما يميز قصيدة السر ولعل أهم ما يلمحه القارئ والمستمع فيها تدفق الطبع ومباشرة القول وتجنب الجري وراء القوافي فضلاً عن الظهور والبيان والاستسلام للفكرة بعاطفة صادقة وحنين جم .

ثم إن القارئ ليجد مشقة وعسراً حين يريد أن يفصل بين عاطفة الشاعر الموجهة للمحبوب ، وبين عاطفته نحو الأهل ، أو الوطن . هذا بجانب عفته المعهودة حين يلجأ للغزل :

            في عينــك حلّق قلبي في الفردوس

            رافل في سعـادة وبي ملاك محروس

            إبليس اللعين وسوسـلو دا المطموس

            كان رد قلــبي ما داير بلاك عروس

ويقول :

            الحنين وداني جيت بالسـاقي سـادر

            قت أنشـد ناسا عن زولي المســافر

            الحفير شوف عيني يبكي معاي يكابر

            دمعو جدول جاري لي بيتكم مجاور

وهذه صورة رائعة تجمع بين الاستعارة والكناية وحسن التعليل . ولعل من أهم خصائص قصيدة السر انطواءها على حركة دؤوبة لا يكاد يخلو منها بيت. ولا أعمد بذلك إلى القول بأن في أوساطنا الشعرية شعراً لا حركة فيه ولكنني أقول إن في أوساطنا الكثير من الشعر الميّت ! فالشعر الذي لا تملؤه الألفاظ والمعاني والأنغام حركةً باعثةً على الجمال الفطري والارتياح النفسي فهو حي كميت !

            الكون أظلم والناس تحلم

            وحدي اتألم وما نُمْ غمد

فالشاعر يمهد  أحياناً بالسكون ليعبر عن الحركة ! فظلام الكون كناية عن السكون ، وحلم الناس كناية عن النوم الذي هو كناية عن السكون . أما صاحبنا فيصاحبه الألم الذي هو أقوى صور الحركة والأرق الذي هو عدو هذا السكون ! والحركة في أشعار السر ليست مما تبينه المعاني فحسب بل هي من أهم أعباء الألفاظ أيضاً :

            طيفك من يلوح قدامي

                        فجأة يزيد لي جني

            ساعة أفرح وأنط قدامو

                        ألقــي غدر طعني

            روّح سابني في فتفيتي

                        جاب ناسـو ودفني 

            ما رشّ القبير بي موية

                        فات خيّب لي ظني

فانظر إلى الكلمات » يلوح « ، » ينط « ، » فتفيتي « فهل ترى أنها تدل على شىء غير الحركة ؟ ! .

ثم انظر إلى من يدفن وهو حيّ ؟ فهل ترى من هو أكثر منه حركة وشدة  ؟ وهل تــرى أن من مات في حاجة لترطيب الجو ؟ وهل هو ممن يصاب بخيبة الأمل ؟ ! .

إنه  سكون ملئ بالحركة ،بل هي  حركة لاتعرف السكون !.  وقبل أن أمضي بعيداً  تاركاً بقية الحديث لحصافة القارئ ، لابد لي من الإشارة إلى الاستطراد الذي يجيده الشاعر ويحسنه .

والاستطراد في أصله ،هو أن يريك الفارس أنه فرّ ليكر . وكذلك الشاعر يريد أنه في شئ ، فعرض له شئ لم يقصد إليه ، فذكـره ، ولم يكن قصـده حقيقة إلا  إليه .

وأحسب أن هذا التعريف قد فصّل تفصيلاً على هذه الأبيات فالشاعر تحدث في معرض تصويره عن مجرد » طيف « يلوح أمام عينيه فلم يلبث أن يزيد من ويلات قلبه ، فيؤثر على مخيلته .

وقبل أن يجف عرق الفكرة ، انتقل بنا الشاعر إلى حوادث متشابكة من غدرٍ وطعن ثم وأد ودفن حتى انتهى بنا إلى خيبة الأمل التي هي روح هذا الاستطراد ،  فما أبرع هذه الصورة وأدقها وأعمقها ! .وقصيدة الشاعر بعد ، مليئة بالجمال ودقة التصوير ، متجانسة اللفظ والمعنى ، حتى أنك لتخال أن بين لفظها ومعناها  وُدّ قديم وقد ربط الأدباء القدامى بين اللفظ والمعنى فقالوا إن اللفظ جسم روحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسد يضعف بضعفه ويقوى بقوته ، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك من غير أن تذهب الروح ، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ .. ولمّا كان شاعرنا يتمتع بلغة شعرية مختارة كان لمعناه الحظ الأوفر من الروعة والجمال .

أطــــراك وكتين الساقي التسـوق فجـراوي تتحسر

نـــواحا يزيــد قليبي بكا    أصــبرو ما بي يتصـبر

أطـــراك وكتين الطنبـــور نغيمتو في قلبي تتحـكر

تـــــرن جواي تبكيني وتقـــولي بلاه ما بتـــقدر

أطـــــراك يوم قمحنا ســنابلو لونن يتقلب أصــفر

وأبكي علي الديـون الفـوقي والغيـر في الحصـاد فكر

أطــــــراك وكتين الشـخلوب سبيطتو تخافلو يتبعثر

تـضـمو عليها بي تحــــنان قليب الأم كمان وأكتــر

تأمل أيها القارئ هذه الأبيات لترى كيف ربط الشاعر ذكراه لمحبوبته بكل ما يحيط بمجتمعه من أوجه الحياة ! حتى كأنه يقول كيف لا أذكرك وأنا أراك في كل ما يحيط بي مما يبعث بالفن والجمال في الحياة من حولي .

أرجع بذاكرتك لصوت الساقية ثم تأمل صوت الطنبور وانظر إلى الشخلوب بين نظائره في حضن النخلة وتخّيل سنابل القمح حين يحركها الهواء ، لترى كيف ربط الشاعر بخيال بديع بين جمال المحبوب وجمال الطبيعة ! وكيف أن الشاعر قد برع في إخفائه من ظاهر النص ! هذا وأسلوب القصيدة أسلوب جيد تسميه العرب بالتنكيت كقول الخنساء :

            يذكرني طلوع الشمس صخراً  

                                        وأذكره لكل مغيب شمس

هذا ما يتضح بالتأويل القريب للأبيات أما ظاهرها ففيه جمال لا يقل عن هذا الذي أولناه . فالشاعر يشبه صوت الساقية بالنواح وأن النواح يزيد من نواحه هو ولهفته على المحبوب وصوت الطنبور لا يقف عند إرسال النغمات بل يمتد ليتخذ مكاناً كان للحبيب فيه مُتَّكأ.. وكأنما يمثل هذا الصوت مرواد البصير المحمّى بالنار حين يوضع على مكان الألم ؛ فيجلب العافية . ولكنه يفاجئنا بفشل العلاج حين يقول :

تــرن جواي ، تبكيني ، وتقولي بلاه ما بتقـدر

وما أروع تشبيه التمثيل في قوله :

أطـــراك يوم قمحنا سنابلو لونن يتقلب أصـفر

وأبكي علي الديون الفوقي والغير في الحصاد فكر

فيعقد صورة لطيفة بين سنابل القمح التي استوت وحان قطافها وشرع أهلها في حصادها ، وبين محبوبه الذي استوى على سوقه وحان قطافه  إلا أنه لا يملك لنفسه منه حصاداً !! .

أما إذا تأملت البيت الأخير فلا شك أنك سترى فيه مالم أره أنا وسيرى فيه غيرك ما لم نره سويا..أما أنا فقد رأيت سحراً حين عقد الشبه بين عطف الشعور وعطف اللا شعور ..عقد الشبه بين الحنان الحقيقي ، حين يتهيأ للأم ،والحنان المجازي ، حين يتهيأ لسائر الكائنات الحية الأخرى .

أطـراك وكتين الشخلوب سبيطتو تخافلو يتبعثر

تـضـمو عليها بي تحنان قليب الأم كمان وأكتر

ولابد أيضاً من الإشارة ههنا ، إلى التكرار الذي قصد إليه الشاعر في كلمة »أطراك « وهو تكرار جيد إذ عرف عن العرب أنها تكرر في الشعر في مواضع كثيرة منها التكرار على جهة التشوق والاستعذاب إذا كان في غزل أو نسيب وهو ما عناه الشاعر .

الأوزان الشـعرية : 

الشعر الشعبي السوداني على وجه العموم ، شعر عمودي ، جار على ما جرت عليه القصيدة العربية ، من وزن وموسيقى وقافية ، وهو متقيد  إلى حــد ما  بما يتقيد به ذلك الشعر من قواعد وتجوزات علم العروض ، ولا يتعدى ذلك ، في بعض الأحيان ، إلا بمقدار ما تختلف به اللهجة العامية السودانية ، عن أمها العـربية .

ولتوضيح ذلك سأقف على بعض أوزان صاحبنا لتأكيد ارتباطها بعلم العروض ، كما تجدر الإشارة إلى أن شعرنا الشايقى ، يجري أحياناً على فنون الشعر الأخرى ، كالدوبيت ، والزجل .وعلى سبيل المثال ، نأخذ قول الشاعر :

القـدم كان ليهــو رافـع    قاسى فرقك يـوم أوادع

لو فضل في عمرى ثانيـة     تـاني لابد ليك راجــع    

 وهذه القصيدة تجري على وزن الرمل » فاعلاتن 6* « ، وكذلك قصيدته نجيمات التي يقول فيها :          

            » دار تنومن ليش ونوم عيني شارد «

ومن الملاحظ أن بحر الرمل لم يرد عند العرب بصورته الكاملة ، وإنما ورد على » فاعلاتن فاعلاتن فاعلن « أي بحذف سبب خفيف من عروضه . ويقال إن عروضه محذوف جائز فيه الخبن أو إن عروضه مجزوء ، وهو بهذا له عروضان فقط . ولكن شعراءنا استعملوه كاملاً في كثير من قصائدهم ، وذلك بسبب قدرة اللهجة الشايقية على استيعاب العروض التام في هذا البحر .ويقول الشاعر في وزن الرجز :

            طبع البحب ساعة الفراق دمعاتو دم

                         ما ببكي كيف انا عندي متلك تاني كم

وهو متألف من » مستفعلن 6*« .وإن كان قد أورد » أنا عندي مت « على متفاعلن التي من بحر الكامل . ولكن هذه ليست بشاذة لأن البروفيسور عبد الله الطيب قد ذكر في حديثه عن الرجز ، أن الرجز والكامل أحياناً يتداخلان ، فيصيب الرجزَ شىء من الكامل ، ويصيب الكامل شىء من الرجز . وأهم ما يميز قصيدة السر من حيث الموسيقى استخدامه المتعدد للقوافي الداخلية :

            أسباب أسـاي وسر بكاي العيـد يمــر

            للناس فـرح وأنا لي ترح من حالي كـر

            الناس تقـوم تمـرق تحـوم قبـل الفجـر

            بين هاش وباش أنا دمعي راش لازم الصبر

            الطـير نضـم رسـل نغـم فـــوق التمر

            شـوف يارفـيق كم بي ضــيق العيد فقر

وسائر القصيدة على هذا المنوال ، وهي قصيدة رائعة جرت على وزن الرجز أيضاً .والشاعر، و إن لم يكن أول من أدخل هذا الأسلوب في قصائدنا ، فهو ممن جعلوه فناً محبباً للنفس ، دافعاً  لها على الخروج من أشعار الرتابة :

            العــذاب طـا ل هـادي والحـال لما كشكش قيدو

            لا مـرق حام لا رقــد نــــام جفنو  طال تسهيدو

            دمعو سال كاب شوفو يااصحاب منحو أبكـو وزيدو

            جيبـــو أخبـار أقـرو أســرار في عيـــون مريودو

وهذه القصيدة لاتقل جمالاً عن سابقتها ولا تنغيماً ، فليراجعا في موضعيهما لمزيد من التأمل . وتعتبر المقاطع والقوافي الداخلية أساساً متيناً لاستخدام البديع  وصور البيان المختلفة ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال قراءة النصين السابقين والنصوص الأخرى التي على منوالهما .. وهناك صور أخرى من البناء الشعرى ، ويمكن أن نسميه شعر المقاطع اشتهر به أيضاً شاعرنا ومجموعة من شعرائنا المجيدين .

 الألفــاظ  :

وأول ما دفعنى للحديث عن ألفاظ الشاعر أسلوبه الخاص ولغته الشعرية المميزة وإحكامه في الربط بين مفردات لهجتنا المحلية وعاميتنا السودانية واللغة العربية الفصحى :

            الرتايــــن ميتى ما رنت طنابيـــر

            ما زمـان أفراحنا يطراهو الله بالخـير

             يا رتاين الزفة نورك كان هدي الغير

            ليـلنا حالك بعـدو فيهو اتعذر السير

            كان ضحك شفتوني منطلق الأسارير

            حالي زي رقصات مذبوح العصـافير

ولأحمد شوقي فى هذا المعنى بيت يقول فيه :

            لا تحسبوا أنّ رقصى بينكم طرب

                        فالطير يرقص مذبوحاً من الألم

فانظر إلى الكلمات : الزفة ، نورك ، هدى ، حالك ،اتعذر ،  ثم انظر : الرتاين، ميتي ، طنابير ، يطراهو ،  لتري بنفسك قوة هذا التداخل .

والسر يقول :

            الساقي بعد العنكبوت الفوق حطيبا خلاس بنا

            بعـد الكـآبة ومسحة الحــزن العليها مهيمنة

            مرقت تلاقيك زي عـــروس متعطرة ومتزينة

والطريف في هذا المثال أن البيت الأول ممعن في المحلية والثاني ممعن في الفصيحة والثالث تملؤه العامية .وهذا الأسلوب قد يتصوره بعض الناس قصوراً ولكنه على كل حال مما استحسن به أدب الأستاذ الطيب صالح القصصي . والشاعر يستخدم في هذه الأبيات الخيال التمثيلي ، والكناية ، والتشبيه  والاستعارة المكنية :

            جـدولنا من بعـــد اليباس الكان موجع تقنتــو

            بعـد السـنين العاشـا في بعــدك بيكتـم أنتــو

            بعد العذاب الفي غيابك كان يــزيد لي محنتــو

            يلقاك فرح جاك زي عريس يادوب جديد بي حنتو 

فانظر كيف جعل الشاعر الجدول » عريساً « والساقية » عروساً « ، ولم يكن هذا هدفه ، ولكنه على كل حال استطراد لطيف وتصوير ظريف للعلاقة بين الجدول والساقية .وفي هذه الأبيات أيضاً تتضح قدرة الشاعر في الربط البليغ بين اللهجة العامية والعربية الفصيحة .فاليباس عامية أصلها اليبس في الفصيحة ،أما التقنت فهو كلمة محلية أصلها نوبي ،ويكتم » أنتو «  جرى مثلها على لسان أبي الطيب حين قال :

            مالى أكتم حباً قد بري جسدي

                        وتدعى حب سيف الدولة الأمم

وظاهر الأبيات مليء بالجمال ، والاستعارات ، والتشبيه التمثيلى والجناس .

            أمــونة إيماني فـوق قلبي  ينشر

            نـور طريقو و سار  لا صد لا  انتر

            ضـرع الحنان انتي رغـم المحل در

            ضل قيلتي انا الرحال لما النهار حر

وفي هذه الدائرة الضيقة يطلق الشاعر أربع استعارات مكنية واستعارتين تصريحيتين ، ثم تشبيه بليغ مع ظهور الإطناب بذكر الخاص بعد العام . فالشاعر بعد أن ذكر أن أمونة ضرع الحنان الذي در رغم ظروف المحل وهي صورة يشترك فيها الجميع » هو ومن معه « خص نفسه من هذا الحنان بأنها ضل مقيله عند وهج النهار واشتداد » المحل « .

والشاعر بعد يمتاز في أسلوبه بالتسلسل المنطقي في إبراز المعاني ويبدو ذلك واضحاً في معظم معانيه كقوله » لا صد لا انتر « ، وأعنى بذلك استخدامه لفظة في معنى ما ثم الإتيان بلفظة أخرى أقوى منها من حيث المدلول والمعنى  فقوله »لا صد « تعنى عدم الرجـوع للخلف من تلقاء نفسه كما هو معروف في اللهجة الشايقية ، أمـا »لا انتر « فهي تعني عدم الرجوع بإصرار وعزيمة رغم وجود الباعث القوي للرجوع قسراً ، وهي كلمة محلية يستعملها البدو وبعض الحضر تفيد معنى التحدي والإصرار. 

 المعــانى  :

أما المعاني فقد أبنا سابقاً أن الشاعر واضح المعنى رصين الأسلوب يستمد تشبيهاته من روح الشعر العربي وطرافة البيئة المحلية ، ثم دعابته الخاصة المميزة القائمة على أدب وفن اللهجة الشايقية وتتسم قصائده بوحدة الموضوع إذ لا يميل إلى الخروج المعنوى إلى مواضيع عرضية كما يفعل بعض الشعراء ، إلا أن يكون استطراداً أو إطناباً لفائدة  أدبية ملموسة فتدور قصيدته كلها حول معانٍ مشتركة  وأحياناً تدور كلها حول معنى واحد .

وللشاعر في إيصال معانيه ثلاثة أساليب ، أسلوب مباشر وهو الذي عليه معظم شعرائنا ، وأسلوب غير مباشر وهو مخاطبة من لا تقع مخاطبته في واقع الحال للتعبير  عمن تقع مخاطبتهم من النساء والرجال لتجنب المباشرة والتصريح وهو أسلوب شاركه فيه بعض الشعراء . وأما الأسلوب الثالث فهو الرمز وسنفرد له باباً خاصاً إن شاء الله .

فمن أبرز مظاهر الأسلوب الثاني مخاطبة الشاعر للقماري مثلاً ، وهو لا يعني الرمز بها إلى أشياء أخرى بل يعنيها هي لذاتها إما عن طريق الاستعارة وإما عن طريق الإشارة كما في قوله :

            غنــي يا قمرية رددي لي غنـــــاكي

            قلبي لم حبيبـــو صــدي على جناكي

            فوق غصونك قوقي واطربي لي سـواكي

            تلقي قلبي غناكي حافظو يشيل معـاكي

            بالفرح طــار رك جنبـك فـوق علاكي

            نـط بـارك ليكي عـاد حقيــق منـاكي

ومن ذلك مخاطبة النسمة :

            يانسمة كيـف أخبــار أهـلنا وحيـنا

            أحكيـلي عـــاد ما باقي طولو منـنا

            يانسمة قولي بدون بكا  المنقة كيف ؟

            والبرتكان يا نسمة صح شال وانتـكا

            يا نسمة مالك ساكتي ما قلبي اشتكا

ثم  مخاطبة الجلابة :

            اللـه اللـه يا جــــلابة

                        اللـه اللـه  جيدن جيتـو

            ما شفتو لي زولي آخواني

                        وكتين للرحـال  شـديتو

            ما شــفتوهو لي ياخواني

                        في حــزن القرير وافراحو

            في دمـع المســــافرين

                        بالعتــامير راحــــــو

            في نقـــرات خيولاً راقصة

                        تحكي رقيص وعوم اخواتو

            ما شفتوهو لي يا اخــواني

                        في طيبة عيون امـــــاتو

وأخيراً ،مخاطبة الغيمة:

            ضلك من بعيد يا غيمة

                        كان دايمن بيتـــمارالو

            جافل منو لكين برضو

                        كان عاقد عليهو آمـالو

ولا يخفى على قرائنا الأفاضل سر اختيار الشاعر لهذه القيم والمعاني والمفردات الخاصة كالنسمة والجلابة والغيمة وغيرها ، للتعبير عما في نفسه من أمور دقيقة .

 الشـعر  الرمـزي

الرمز نوع من أنواع الإشارة ، وقد ذكر الأدباء القدامى أن الإشارة من غرائب الشعر وملحه ، وبلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى ، وفرط المقدرة ، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز  والحاذق الماهر ، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة واختصار وتلويح يعرف مجملاً ، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه .

وأول ما يلفت النظر في أشعار السر الرمزية ، أنها صبت في قوالب بيئية  محلية محببة إلى النفس . ولما كان أصل الرمز ، هو الكلام الذي لا يكاد يفهم  كما قال ابن رشـيق  فإن شاعرنا عمد إلى استخدام أنواع من الرمز لا علاقة لها بموضوعه إن جاءت مجردة ، ولكنه وببراعة الرامز استطاع أن يجعل أفكاره التي يعالجها في صورة أقرب إلى الخيال الفطري لإنسان الريف  فأول أفكاره تأويلاً تنجذب إليه قلوبهم وتميل إليه خواطرهم .

            تمـرى الما نجض دفيـقو        جوهو اتقسموهو وراحـو

            ما عارفين شقيت في دربو      بالحق لي نفوسن أباحــو

            تعبان يوم رميت شتلاتو                 نامــو منعـمين ارتاحـو

            صنقر في الهجيري حرستو             فد يوم جنبي تب ما لاحو

            حدر لي جداولو سقيتو                    بي وش القبـاحة أشـاحو

            جاو قالولي من وين جبتو                ضـبلن ما بعـدي صباحـو

            يوم سل الجراب وانشق                     شميت لي عطورو الفاحـو

            شفت جماعتي قامو اتلمو                    كل واحد يزيد في صياحو

            واحد قـال نقسمو علينـا                      واحد قـال كتيري ارباحـو

            عقدو الراي علي وديـري                   قلبي جريح وزادو جراحـو

            فت خليت حقوقي ورحت                   لي ناس بالعـدالة أطاحـو

            أشــكيلن عـذابي البـي                        قاضـيهن تصـيبني رماحو

هذا والقصيدة طويلة ورائعة فلتراجع في موضعها في ديوان الشاعر  فباقي الأبيات لايقل جمالاً عما أثبتناه ههنا .

وأول ما يتبادر إلى الذهن هو مقدرة الشاعرعلى إخفاء حقيقة الأمر الذي يتناوله مع إظهار كل ما يريد إظهاره من أفكار ، ثم يقوم بمعالجة كل الظواهر الإنسانية في متن القصيدة على هذه الهيئة ، تاركاً لحس القارئ  إظهار ما يخفيه الرمز في أبياتها ! .

وقبل أن نمضي بعيداً عن هذه القصيدة البديعة لابد لنا من الإشارة إلى ما يسميه علماء الأدب والبلاغة بالاتساع ، وهو أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل ، فيأتي كل واحد بمعنى ، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى ، ومن ذلك قوله :

            يبقي نهر حياتكم يصفى                      تشربو سلسبيل رحراحو

            كيرو الكان قبيل بي شيمتو                    منو بعيد يفوت تمساحو

هذا والقصيدة مليئة بالكنايات، والمجاز  والاستعارات ، بل وأحسب أن هذه الصور البلاغية تتنافس تنافساً ، لا يكاد يمهل الشاعر ليلتقط أنفاسه في استراحات القصيدة .ولنا وقفة أخرى على أمشاط الأصابع مع هذا المثال البديع :

            خلاص رحل الربيع خلف زهورو

                        للصيف لي يباسو ولي هجــيرو

            صحت قبل الفجر صدحت طيورو

                        بكت مزجت غناها مع عبــيرو

            جاها الناعي ناح سمعت صفيرو

                        في العش كل جوز فارق صغيرو

            علي حل المحل طالن شهورو

                        ومليـون آهـة ما بتقـدر تديـرو

            بس قلبي المجندل مين يجيرو

                        دكين الظـلمة مين يقـدر ينيـرو

فالربيع معروف ، والصيف معروف ، وبمعرفتهما تبدو قيمة الرمز ههنا . ولكن الذي يهمني هو صوت العصافير الذي هو غناء وبكاء في آن واحد ، ثم صوت الناعي الذي هو نواح وصفير في آن واحد ! أضداد تجتمع ومختلفات تأتلف والمعنى واحد قوي بليغ يستمد قوته من جمال الطبيعة وبراعة التعبير .

والشاعر بعد ، لم يفته أن يصور الآهة وهي تنبعث داوية من الصدر المحزون وكأنها ماكينة تنطلق فتحرك كل شيء أمامها إلا » المحل « الذي أعجز مليون آهة ولو اجتمعت له بقوتها ودويها ! .

أما قلبه » المجندل « فإنه دكين الظلمة مين يقدر ينيرو ؟ . وهنا يأتي التعبير على إحدى صورتين : صورة مباشرة تجعل كلمة دكين نعتاً للقلب ، وأخرى غير مباشرة ، أتى بالاستفهام فيها على سبيل الحكمة ، وهذا هو الأقرب إلى المقصود ، ومثله كثير في ديوان العرب ، انظر إلى أبي الطيب يقــول :

            لا يعجبن مضيماً حسن بزته

                        وهل يروق دفيناً جودة الكفن ؟

 الشـعر العاطفي

الشعر العاطفي هو ذلك الشعر الذي يصور عاطفة الشاعر ومشاعره الخاصة ويعبر عنها حول أمر من الأمور ، أو هو ذلك الشعر الذي يخاطب به الشاعر عواطف الآخرين ومشاعرهم وربما عبر عنها بلسانه أو لسانهم وربما كان مزيجاً من ذلك كله .

ولأمر ما انحصر هذا النوع من الشعر في الغزل والنسيب وما يصاحبه من آلام وتباريح ، حتى أصبح مصطلحاً يعبر عن النسيب والتشبيب بالنساء .

وشعر السر كله عاطفي بالمعنى العام ، فهو دائماً يحن ، ويحن لكل شيء ؛ يحن للأم ، ويحن للأب وللقبيلة وللتراب والوطن وللنيل والجروف والخضرة والجمال ويعبر عن كل ذلك تعبيراً مليئاً بالروعة والجمال .

ومن هنا فقد أصبح تقسيم شعر السر على أنه خاص بالغزل أو بالوطن أو بالحياة الخاصة أمراً فيه عسر شديد ؛ لأن السر   وكما أسلفنا من قبل  لا يستطيع أن يفصل بين حنينه للمحبوب وذلك الحنين الممتد للأهل والتراب .

ومهما يكن من أمر ، فسأحاول ما أمكنني أن أجعل حديثي عن شعره مرتكزاً حول أمور ثلاثة :

عاطفته نحو أمه ، ثم عاطفته نحو المحبوب ، ثم عاطفته نحو الوطن ، وإن كان شعره السياسي والاجتماعي تتحكم فيه أيضاً عاطفة صادقة تعبر عما في نفسه من شوق لوطنه وحب كبير .

الأم مصدر العواطف :

            شوفي الزمن يا يمة ساقني بعيد خــلاص

            دردرني واتغربت واتبهدلت وريني الخلاص

            سـاقني القـدر منـك بعـــيد لأذايا كاس

            جرعنـي كاس

            يا يمة يا  فيـــض الحنان  الما كمــــل

            يايمة  يا بـــدري البشــع دايماً  يهــل

            يا يمة يا نـــور الصـباح وكتين يطـــل

            واشري يا زينوبة

            ولــدك في بحــور الشــوق كتــــل

            محـروم من الحب والمحـنة وراك همـــل

            يا يمة يا بحــر المــودة وكت يفـــيض

            يا يمة يا شـــعلة أمـــل زادت وميـض

            يا يمة يا عنقـود كلام منظــوم قريــض

            يا يمة يا نغـماً حنين بالشــوق يــــرن

            وأفكاري فيهو بيرتعن . . دمعاتي شانو بينزلن

            واتذكرك يا يمـة في الدغش النسايمو يهبهبن

            قايمي الصباح متكفلتي وشايلي الحليلي على المراح

            والســـاعة ديك يا دوبـــو ديكنا بدا الصـــياح

            والطـير صغــارو يغردن جبتي اللبن بي انشـــراح

            واتذكـرك يا يمة في ساعة الهجير

            صالاك نار الدوكي عستيلنا الفطـير

            رشــيتي قلــتي اكلــوهو خــير

وكثير من الشعراء يخاطبون أمهاتهم عند تعرضهم لبعض الموضوعات الشعرية وكثير منهم يخاطبونهن في قصائد كاملة ، وأكثر الذي نجد عليه شعراءنا أنهم يخاطبونهن حين يتعرضون لشعر الغزل باعتبار أن الأم هي المصدر الأول لجميع العواطف الإنسانية .

ومخاطبة الأم أو الأب ظاهرة حميدة يلجأ إليها معظم الشعراء عموماً ، وفي أدبنا الشايقي بصورة خاصة، مما يدل على صدق الانتماء وإظهار الطاعة والولاء لأهم ركيزة اجتماعية ، حث الإسلام على برها ، واحترامها والاهتمام بها ..

وقد قدم الشاعر عبد الله محمد خير في قصيدته :

            متين يا ربي أنا ينحل قيــدي

                        ومتين يا يمه تفرحي بى جديدي

مثالاً رائعاً لهذه الظاهرة ..

أما شاعرنا السر فإنني أرى في مخاطبته أمه في هذه القصيدة اختلافاً   من سائر الشعراء المبدعين الذين خاطبوا أمهاتهم   في اثنتين :

أولاً : صب الشاعر فكرته كلها على ذكرياته مع أمه ، وتشوقه لها ، وحزنه الشديد لفراقها ، مع تفصيل مكانتها في قلبه ، وهو أمر يمر به الشعراء مروراً مجملاً . 

ثانياً : جعل الشاعر ذكرياته مع أمه قاعدة متينة عريضة لتصوير الحياة التي افتقدها في القرية .

وأرى أن السر وعبد الله محمد خير اتفقا في جعل الأم مركزاً عاطفياً قوياً دفاقاً لمعالجة موضوع القصيدة ثم اتفقا أيضاً في اللجوء النفسي والروحي إلى الأم وإن اختلف السبب قليلاً مع بقاء المؤثر ..

فعبد الله يقول :

أكان يايمه صح ولدك تريدي

            إنت كل ما تصلي ليه عفوك زيدي 

قولي أنا عافي منك يا وليدي

            عشـان أنا بي عفوك بلحق حديدي

والسر يقول :

            يايمه ساعة يوصلو ويقـولو ليك شـفناه في بلد الأمان

            يا يمـه رسـلي لي عفـوك ينجيني من جــور الزمـان

وبالرجوع للنص نلاحظ عمق الفكرة مع بساطة الاسلوب وسهولته وهذا يدل على صفاء موهبة الشاعر إذ أنه يخاطب قلباً هو إلى قلبه أقرب ..ومخاطبة القلب غير مخاطبة العقل ..

ثم إن الشاعر يقول لأمه شوفي الزمن ساقني بعيد ،ودردرني واتغربت ، وريني الخلاص . وهو يريد أن يقرأ  أفكار أمه فقط لا أن يعرض أفكاره عليها ؛ لأن الأم هي التي ترى أن ابنها تغرب عنها ويزيد بعده عنها من شفقتها عليه ، وقلب الأم على ولدها شئ وقلبه على أمه شئ آخر ، وهذا ما يجعل هذا الأسلوب أكثر رونقاً وجمالاً  وبلاغة .

فالشاعر كأنما يريد أن يقول : إذا كان هذا حالي أنا ، وشوقي أنا  فكيف بك يا أمي ؟ . وكلمة » خلاص « في البيت الأول محلية ، وهي ترادف كلمة » جـداً « أو»  بشدة « ، والخلاص في البيت الثاني أيضاً عامية وفصــيحة كذلك ، وتعــني » النجاة « مما جعل في البيتين جناساً تاماً .

شعر الغزل :

وأما شعر الغزل عنده ، فهو ذو طابع خاص ، لا يميل به إلى المغازلة العابثة اللاهثة ، ولا إلى الوصف الحسي المباشر الحاد ، وإنما يصب معانيه كلها حول القيم الجمالية والأخلاقية الرفيعة إن لم يكثر من الحزن والجوى وآلام الفراق ، ولا يميل إلى الغزل الصريح إلا نادراً ، وبمقدار ما يعرض للشاعر أحياناً من دوافع ومؤثرات خاصة ، الأمر الذي جعل صاحبنا يتبوأ مكانة متميزة في التعبير الرمزي والمجازي في غزله :

            يا مواســم اخضـراري في رجـاك طال انتظـاري

            لي تعالي وشوفي كيف الصيف سنين ساكن دياري

            الحـزن كحل عيـوني دمـعي فوقـن ديمة جـاري

            ومـاني قـادر مـرة واحـدة للعلي أكتـم واضـاري

ولتعبير الشاعر المباشر في الغزل أيضاً نكهة خاصة وبراعة وجمال :

            يالبــــي داري               قاصــــد وداري

            زي ما انت نوري           يـــاك انت ناري

            ليـــلي ونهاري            كاب دمعي جـاري

            كيــفـن أداري               واكتم حســاري

            رجـــع مراحي                   خفف نـــواحي

            ياآســـي روحي                   مصـدر جـراحي

            معقـود لســاني                   عاجـز بيـــاني

            يشـــرح معاني                   عن ما أعـــاني

وفي هذا الأسلوب،  يكثر من استخدام الصور البديعية ، وخاصة الجناس والطباق :

            صبـــك معني         طاش فكرو جنا

            حين ليلو جـن         بيك لاهي غـنا

            الليل يحــومو         يحسب  نجومو

            وجعو وهمومو       قاسملو نومــو

والشاعر أحياناً يتناول صوراً رائعة لمخاطبة المحبوب تأخذ فكرتها من الروابط الروحية الوثيقة بينهما من غير كلفة أو تكلف :

            وا لومي العتاب جابوه كيفن أسوي كيف الشــورة

            آه لو تـدري كيفـن قلبي لي أحـزانو صار مطمورة

            كت نـاوي الرسـالة تجيك قبل الفـرقة تلحق دورا

            علّي انا وامغستي ظروفي هي اللحمتني اقرا سطورا

وما أروع أن يوصف القلب بالمطمورة ، فالعرب تكني القلب بمواطن الكتمان ومواطن الأسرار ، ولعل هذا التشبيه قد استمد قوته هنا من البيئة المحلية والمعنى واحد ومثله قول شاعرنا » حميد«

            وكان حفاير الصبر قلت    في الضلوع بحفر لي دالة

ولا يخفى تعمد الشاعر حذف  الأداة ووجه الشبه ليقع التشبيه بليغاً .

الشعر الوطنى :

حب الوطن جزء من غريزة الإنسان السوي ، وهو عند الشعراء أظهر وآكد ، ويزيد ظهوراً وتأكيداً كلما زادت شفافية الشاعر ودوافعه الوطنية . وبوجود المؤثرات يزداد الشعر الوطني قوة وجمالاً .

وشاعرنا هذا لا يحتاج منا لبيان شفافيته ولا دوافعه ولا مصداقيته ، ولكن يحتاج لتحديد طبيعة هذا الحب ، فالكل يحب وطنه ويتخذ لذلك من الأساليب ما يوضح به حبه ولكن لهذا الحب درجات تختلف أحياناً اختلاف درجة وأحياناً اختلاف نوع :

            البعاد جرح فؤادي وارهقو

            بهـدي شوقي وكل حنيني

            للتراب الغـــــــالي لي

            وطني العـزيز البعشـــقو

والشاعر لا يستطيع ، ولا المستمع إليه ، أن يفصلا بين حبه للوطن ، وسائر حبه للأشياء والمخلوقات  وهو أمر ذكرته مجملاً فيما مضى  فهو يحب وطنه كما يحب أمه وأهله وعشيرته ويحب محبوبته كما يحب الفن والجمال ولذلك فهو لا يستطيع أن يعبر عن الجزء دون الكل :

            عاشق في عيونك إنت طيبة أهلو وقريرو

            لا ألـوان خدارو الزاهية لا مويـة  حفيرو

فهل هناك تداخل في الحب أكثر من هذا ؟ يعشق طيبة الأهل والبلد والخضرة وماء الحفير من خلال عشقه لعيون المحبوب !.

ويقول في نص آخر :

            انت كلما تغيب عن عيوني

                        بتبقى قريب لي فؤادى

            خلاص اصبح قطعة منـي

                        بريدك انا زي بــلادى

            يمين جواى انت خــالد

                        خلود البركل وزيـادى

            خلود النيل يجري دايماً

                        يعم الخير في البـوادى

فالشاعر يلتبس عليه الحب أحياناً حتى يعجزه الفصل بين من يحب ، وما يحب وهي درجة لا يصل إليها إلا من أضحى الحب عنده قضية وليس مجرد شعور ، وأصبح الوطن حالاً وليس محلاً .

فالأمر عنده كل لا يتجزأ وإن أبدت ألفاظه تجزئة وأرت معانيه فصلاً في بعض الأحيان . والشاعر بعدُ غيور على وطنه غيرة لو وقعت بين زوجين لفرقت بينهما :

            وقع ما سمي

            قلبي وحاتك مما فاتك يوم ما انجم

            قروش الجن دي أريت يا  وطــني

            بعــيد عن أرضـــك ما تتــلم

            آه يا بلـــدي . . . يا زول قـادل

            جلابيـــة فــــــرد ويحـيدي

            قـديمي نضيفي ســيف كاويـها

            قانــــــــع بيها وبـــارم العمة

            نفس غنيـاني  وجيــــوبك فاضي

            بس لاكيــن

            للمحتاجين دايمــــاً مليــــاني

            عـــــوافي عليك عــــــوافي

فالشعر الوطني عند صاحبنا ملئ بالقيم ، مشبع بالجمال ، فالقناعة بالموجود والرضى بالقدر وراحة البال والكرم الفياض وغيرها من القيم النبيلة هي من سمات الوطن الذي يعشقه ويحكي عنه .

            القــــدم كان ليهو رافع

                        قاسي فـــرقك يوم أوادع

   لو فضـل في عمري ثانية

                        تاني لابـــد ليكي راجــع

                          تاني راجـــع يا بلادي

    إن نسيت ما بنسي مــرة

                        كيف في بعدك ضقت مرة

   كان أخير لي أقعد هـناك

                        واعيش ولو بي كسري مرة

             تبقي حلوى في بلادي

فأي شوق أشد » شوقاً « من هذا ( الشوق ) ؟ كيف يطمع من بقى من عمره ثانية » أو طرفة عين « للرجوع لبلد يستغرق الوصول إليه ساعات ؟ وهنا تبدو قيمة الخيال المشوب بالعاطفة الجامحة ولابد للقارئ أن ينتبه إلى المحسنات البديعية كقول » مَرَّة ومُرَّة « و » مُرَّة وحلوي « والجرس اللفظي الرائع في مطلع القصيدة المتمثل في القاف والدال والفاء والراء .

والقصيدة جميلة ومليئة بالسحر والجمال فلتراجع في ديوان الشاعر للمزيد من التأمل .

هذا والشعر الوطني عند صاحبنا ، ليس فناً مستقلاً تعبر عنه قصائد خاصة ، وحسب ، وإنما هو غرس لا تخلو منه قصيدة ، ولا يكاد يخلو منه بيت .

الشـعر الاجتماعي         

الشعر الاجتماعي بأقسامه ودوافعه وضروبه معروف ، لذا فسأحصر حديثي  إن شاء  الله   في أمرين :

الأول : الأشعار التي يعالج فيها الشاعر القضايا الاجتماعية في الريف وساكتفي بقصيدة بت البلد كمثال لبعض هذه القضايا .

الثاني : الأشعار التي يعبر فيها الشاعر عن مشاركاته في المناسبات الاجتماعية وأعني بها » الأخوانيات « وسيتم تحليل هذا الموضوع من الشعر بناء على هذا التقسيم .

أولاً : بت البــلد :

بت البلد نموذج جيد للشعر القصصي عند الشاعر ، وهي قصة رائعة حزينة مؤثرة صادقة تعالج مشكلة من أهم المشاكل الاجتماعية في الريف والتي سادت وحتى وقت قريب وربما لا زالت موجودة في بعض المناطق وهي سلب حرية الفتيات في اختيار أزواجهن أو ربما فرض أزواج يكون المال أساساً لاختيارهم دون أدنى اعتبار لمشاعر الفتاة ورغباتها وتفكيرها فضلاً عن مستقبلها المجهول .

وبت البلد قصة شعرية مكتملة الأطراف جيدة السبك مترابطة الأحداث منطقية التسلسل وهي تحتوي على أركان القصة الأدبية الحديثة : المقدمة  العقدة  الحل .

وقد مال الشاعر للإطناب في سرد بعض جزيئات قصته لأنه وجه من وجوه البلاغة التي تعالج مثل هذه الأفكار وإن كان الشاعر قد عالج نفس الظاهرة نثراً في قصة لم تتجاوز عدة سطور مما يؤكد مقدرته على الإيجاز ، وتعمده للإطناب .

” مالت بوجهها المشع فرحاً لتداري دمعة كادت أن تفضح دواخلها الجزعى ، أحست أن أصبعها يبحث بحياء وفي حركة عمياء ثم يستسلم باطمئنان للمحيط الدائري الذي طوقه .

“فجأة انتفضت ويدها حول عنقها ، التبر استحال نسيج حبل غليظ قاسي ، خشيت إن فارقت مقعدها أن يسحبه الجالس بجوارها فتهوى إلى اللامستقر ” .

وذهب الشاعر إلى أكثر من ذلك ايجازاً فعبر عن القضية كلها في بيت واحد في قصيدته » الحنين «

            من تقاليد ريفنا يا الابو ما بتشاور

                        نحن سر مأساتنا بتنا قولا قاصر

وحين أحس الشاعر بعمق القضية جعل لها مسرحاً وحواراً وأحداثاً فكانت بت البلد القصيدة .

والشاعر يبدأ قصيدته بالعقدة ولكنه لا يذكرها صراحة فيجعل الحديث يدور حول العريس القادم ، وما انشغال القرية كلها بهذا الخبر إلا مقدمة رائعة لعقدة القصة بل هي أحد ملامحها الرئيسة .إذ ليس كل عريس يشغل أمره الناس أجمعين من عابد ونائم وغني وفقير وشيبة وشباب .

ثم بدأ الشاعر في توضيح العقدة شيئاً فشيئاً دون أن يغفل فطنة القارئ حتى إذا اطمأن إلى موضوع العقدة سارع للحل .

والوجه الآخر للعقدة يكمن في اهتمام الشاعر بوصف مشاعر العروس الغارقة في دموعها :

            بت البلد عبـراتها سـدت في الحلق

            تبكي وتنوح تشرب دموعها وتنشرق

            لمان حسيس نقارة جاها من الشـرق

فماذا يبكي العروس يا ترى ؟ هنا منشأ العقدة !

            وبعــــد تمر كمين سنة

            في يوم صباحو صباح هنا

            واحـة حنــان نغمة غنـا

            ريحــة لبيــــني مقـننة

            مر الجنا .. سلم علي بت البلــد

            زي عــادتو  سلم  وابتعـــــد

            تابعــــــاه عين بت  البلـــد

            بت البلد سمعت ضريبات القلب

            يا ربي مالو دا ها  القلب

            بعد الثبات كيفن  خرب

            بت البلد عرفت  تحـب

            واليوم داك بت البلد ما جاها نــــوم

            ما دام خيال بت البلد يمشي ويحــوم

            بين الخيال شافت وجيهو الهاش  وباش

            شافت عيونو الفيها فيض أحلاما عـاش

            شافت سحاب الريدة فوق واديـها راش

إذاً ماذا يبكي العروس ؟ هنا أصل العقدة !

            اتذكرت كيف حاج محمد والـدا

            حالف يمين ود البلد ما ياخـــدا

ومن العـــــريس إذاً ؟

            واتذكرت كيف حاج محمد والدا

            وصف العريس القالو قام يوم الأحد

            كتر محاسنو وعددا

وهنا نشأ حل القصة ، من عقدة بت البلد ، مثلما نشأ حل بت البلد من عقدة القصة !

            وبكت بكت بت البــلد

            لما الخبر ذاع في  البــلد

            إنو العريس قام  بالأحــد

            والحلي جاطت والحـــريم

            اتهامسن جــاي  الولــد

            كــوم من بنات للبير ورد

            يتحــدثن جاي الولـــد

            يابختـــها  ! .

وهذه هى المقدمة والتى جعلها الشاعر على طريقة القصة الحديثة في آخر القصة  ، وفي أولها ، وفي هذه المقدمة تحدث الشاعر عن أمر هام آخر يتعلق بكلمة يا بختها ، ولكنه سيطيل بنا مقام البحث فآمل أن يبحث فيه القارئ وسيرى دقة الشاعر وإحكامه وقوة ملاحظته .

ثانياً : الأخوانيات :

وهي ما يقدمه الشاعر من أشعار مخصوصة في مناسبات مخصوصة لصديق أو مجموعة من الأصدقاء بدافع المشاركة والمجاملة .

وهذا النوع من أقل ضروب الشعر تأثيراً ولكن إحساس الشاعر الحقيقي هو الذي يلعب الدور الأكبر في قوة المعنى أو ضعفه .

ومن المناسبات المهمة التى يشارك فيها الشاعر مناسبات الزواج ، ولقد وقع ناظري على عدد كبير من كروت الأفراح  أسهم الشاعر في صياغتها شعراً :

            يا أحبابنا ..

            قدر الفج البين السما والأرض أبوابنا

            أهلاً حلو .. سهلاً طلو

            بي جيتكم يوم أفراحنا بنفرح  دابـنا

واستطاع الشاعر  أن يلخص الدعوة في أمرين مهمين هما الكرم والمشاركة وهما أظهر ما يرتبط بمناسبات الزواج ، وها هو الشاعر يعبر عن فرحته بزواج أخيه عادل فيقول :

            يمة يابـــا ، يابـا يمة ، يمة يابـا

            يا روا العطـش  اليحث الخطــوة

            فوق درب السـحابة

            ريدي ليكم كرة الخيل في الحرابة

            نسمة الليل وانسيابا

            رنة أوتــار الربــابة

            الشجن نار الصـبابة

            وثبة المحن الزمـان وقفـن لو عـــارض

            صبرو يغتال حزنو يرحل للغيوم يتناطا شابا

            طوطو الألم المدد من سماها الفرحة  جابا

وجاء في ختام النص :

            القــــرير شيبا وشـــبابا

            غنــو فــرحانين طــرابا

            يي دي سارت شادي  حيلا

            بي تحت يرقص لي  نيـلا

            يا صحابي الليــلة ليــلة

            ســيروني أنا بالعـــديلة

انظر معي إلي قول الشاعر

            يا روا العطش اليحث الخطوة فوق درب السحابة

تصور حال من ضل في الصحراء فأعياه الظمأ فأصبح أمله في الماء معقوداً على سحابة في السماء لا يدري ما الله صانع بها !

هنا تبدو قيمة التشبيه والتصوير لأنه بمقدار الظمأ تكون الحاجة إلى الماء وهكذا رأى  أبويه .

ولو أن الشاعر اكتفى بهذه اللوحة الرائعة لأغنته عن التشبيه الذي استمتع به البيت الثالث والذي ينبئ عن معنى قديم استخدمته العرب في ديوانها وهو حب الخيل للإقدام كناية عن الشجاعة والقوة كما قال أبو الطيب :

            وأصرع أي الوحش قفيته به

                        وأنزل عنه مثله حين أركب

وكما قال امرؤ القيس :

            مكــر مفـر مقبـل مدبـر معـاً

                             كجلمود صخر حطه السيل من عل

والشاعر كأنما يصور هذه الشجاعة وهذا الإقدام بأنه مما تهوى الخيول الأصيلة ، وليس أنها مجرد عادة أو صفة مما جعل تشبيهه في غاية الروعة والجمال .

أما قوله في آخر القصيدة :

            يا صحاب الليــلة ليـــلة

                        سيـروني أنا بالعــديلة

فمعناه الظاهر يدل على أن الشاعر هو العريس نفسه وهذه صورة نفيسة سبقه إليها أبو الطيب أيضاً في قوله :

            إنما التهنئات للأكفــــاء

                        ولمن يــدني من البعداء

            وأنا منــك لا يهنئ عضو

                        بالمسرات سائر الأعضـاء

وللشاعر في مجال الأخوانيات إسهامات أخرى لا تقل جمالاً ولكني خشيت التطويل في هذا الباب، لذا ساكتفي بهذا النص .†

الشـعر السياسى

الشعر السياسى ضرب من ضروب الشعر الذي يوجه رأساً لمعالجة القضايا الناتجة من خلل في النظام الحاكم ، وإذا ازداد هذا الخلل اتخذ الشعر السياسي طابعاً حاداً يسمى بشعر المقاومة .

وشاعرنا هذا واحد من الشعراء الوطنيين الذي تلمس إسهاماتهم الزاخرة في هذا المجال ، ولا سيما أن الأوضاع السياسية السابقة ، في السودان كان لها من الخلل والفساد ، ما يدعو لوجود هذا الضرب من الشعر :

            عـازة يا أحباب خـزوها

                        المطـــاليق الغبــــايا

                        لما آخــــر الليل لقوها

                        شــــايلي طورية أبوهـا

                        طالعي راس الساقي تسقى

                        كبــــوا من المر سقوها

واتخذ الشاعر من براعته الرمزية اسلوباً هادئاً للمقاومة العنيفة :

                        يوم سحايب عـازة كبن

                        يوم حرايق عازة شــبن

                        يوم اعاصير عازة هبــن

                        شلعن ركن الخـــرابة

                        جن مراكب عازة طـبن

                        عازة جاتنا ومرحبـــابا

                        ياغلابة الدنيـا  دابـــا

                        طل في أبريل صــباحو

                        وانفتـح لي الفرحة بابـا

فانظر إليه كيف أتى بالمطر قبل الحريق ، وجعل الحريق قبل الأعاصير ، والأعاصير بعد المطر ! .

ولا غرابة ! فالشاعر يعبر عن النضال والنضال لا يعترف بالترتيب ، بل ولا يعرف المقدمات بقدر ما يعرف النتائج ! لذا فقد نبأ الشاعر  بقدوم الخير صراحة ، ثم أشار إلى المقاومة ضمناً ، ثم هبت العاصفة فاحرنجم الناس وافرنقعوا على مراكب عازة التي » طبت « في السادس من أبريل .

ولكن فلننظر من أين جاءت عازة ؟ .

                        من وسط زغريت  بنـــاتنا

                        من صِلاتنا ومن  صَـــلاتنا

                        من دفوفنا ومن  صفـــوفنا

                        سـاعة اتحـدينا   خوفــــنا

                        يوم شروق شمس  البــداية

                        من طلوع روح  النهــــاية

                        من عطا النــاس  السخـايا

                        من شقوق كرعين  حفــايا

                        من شـمامير العــــــرايا

                        من كلام صمت  المــداين

                        من لهيب جوف الكــماين

                        من أريــج زهـر  الجنــاين

                        من شعاع ضــــو الرتاين

                        عــازة جـاتنا ومرحبــابا ! .

وها هو الشاعر يقول أيضاً قولاً بليغاً ، في قصيدة أخرى مليئة بالقيم والجمال والحماسة :

                        ختــــو مروادن محمي

                        فـــوق ضهر وطناً ممدد

                        عض لا من صبــرو دمم

                        لحظة تب ما انصـر غمد

                        بالعنــج جــلادو واقف

                        ليـــل نهار يديهو جود ! .

ثم يقول في ذات القصيدة :

                        قصوا جنحات الخداري

                        دسوا قوقاي القمــاري

                        كبوا في قدح المـحنة

                         سم عقابيل المظــنة

                        ضيعوا الذات و الهـوية

                        خموا من كومنا الشوية

                        ختوا بالن لي قمحــنا

                        باعو قبال ما ننـــورق

ولا أريد الحديث عن التشبيه التمثيلي الذي تكرر في هذه الأبيات بصورة رائعة مستمدة من روح اللهجة المحلية ، ولا أنوي الحديث عن الرمز البديع الذي استخدمه الشاعر ، فهذه أمور قد تطرقنا إليها آنفاً ، ولكن لنقف قليلاً عند قوله :خموا من كومنا الشوية !

أي طمع … وأي جشع … وأي استغلال أكثر من هذا ؟

والشاعر على براعة بيته هذا ذهب إلى معالجة الفكرة بصورة مليحة ، في موضع آخر من القصيدة :

                        قاعدي للتـــاريخ تغالط

                        مادي للمنطــق لســانا

                        تشكي من تخمة بطـونا

                        ناطي فوق معلاق عشانا

                        فاكـري إنو الليل مكتف

                        ومستحيل الشمس تشرق

فما أبدع هذا الخيال وأروعه ! ماذا تقول فيمن يشتكي التخمة ، ويشتهي اللقمة ؟!. تصور أن الليل مكتوف ماذا يتبادر إلى ذهنك ؟

هذه لوحة فريدة إذا ما نظر إلى الوضع السياسي آنذاك وكيف أن سدنة النظام كانوا يبيتون بالشبع ، وجيرانهم يتضورون جوعاً .

ولم يكتف هؤلاء السدنة بأخذ ما في حوزتنا من الطعام بل :

                        ختوا بالن لي قمحنا  باعو قبال ما ننـورق

وهي كناية بالاستعارة ، أطلقها الشاعر،  وفي نفســــه شيء من » حتى « وتكفي الإشارة هنا إلى ما كان يباع أحياناً من وارداتنا، والباخرة التي تقله لا تزال في البحر ! .هذا والقصيدة من نوع الشعر القصصي ، ولكنها احتدت في آخرها فجاءت على هيئة الملاحم حتى اشتعلت نيرانها في الفضاء الرحيب علينا وعلى أعدائنا :

                        ثـورة كل الشـعب قائد

                        سـكة اكتـــوبر مشابا

                        دك أمن الطغمة أقسـم

                        تؤخــذ الغايات غـلابا

                        وفي ســبيل العزة أهلاً

                        بالرصـــاصة ومرحبـابا

                        ضحي بي شهداهو صمم

                        دق للحــرية بــــابا

                        أصلوا لما الشعب يأمـر

                        تبقي لازمة الاســتجابة

                        والوصــية .. الوصــية

                        القصــاص لا بد  منـو

                        ونبقي مية علي بلـــدنا

                        ونبقي مية علي تـــرابا

  المعاناة في أدب الشاعر                     

المعاناة التي يعيشها الشاعر أيا كان ، أو كانت ، تمثل إحدى الدوافع الأساسية التي تؤدي لكتابته الشعر ، ولكن هذه المعاناة تختلف من شاعر إلى آخر باختلاف طبيعة المعاناة ونفسية الشاعر وقدراته كذلك على التصوير الفنى للمعاناة .

فهناك شعراء تتجسد معاناتهم فيما يلاقونه من ألم الجوى والحرمان ونار الغرام وما يتبع ذلك من شقاء وعناء كما يقول أبو الطيب :

            وما في الأرض أشقي من محب

                                وإن وجد الهوي حلو المذاق

            تـراه باكيــــاً في كل وقـت

                        مخـافة فـرقة أو لاشـتياق

وهناك شعراء آخرون تتجسد معاناتهم فيما يلاقونه من ضغوط سياسية أو اجتماعية أواقتصادية أوغيرذلك ؛ فتؤدي بهم إ لى درجات الشقاء المكونة لسلم المعاناة.

وقبل أن نلمح دواعي وظروف وخلفيات المعاناة  التي يعكسها أدب شاعرنا في شعره ونثره ، دعونا نلقي بعض الضوء  على المعاناة عند بعض شعراء العرب .فمجنون ليلى حين أطلق غزالاً كان قد اصطاده أخوه وابن عمه لما رأى فيه من شبه لليلى كان يصور نوعاً خاصاً من المعاناة التي أدت به في نهاية المطاف إلى الموت بواد كثير الحجاة ولكنها جعلت  منه شاعراً تلذ بسماعه الآذان والنفوس .وجميل بثينة حين خاطر  بنفسه ودخل ليلاً على بثينة  كما أخبر الرواة  وكان أخوها وأبوها خلف الدار يتربصان به  كان يعيش معاناة خاصة جعلت منه شاعراً تطرب بشعره القلوب والأفئدة .وكذلك أبو العلاء حين حرم على نفسه ألواناً من الطعام والشراب وحين حرم على نفسه الإنجاب  قائلاً :

                        هذا جــناه أبي علي

                                     وما جنيت علي أحد

كان يعيش معاناة جعلت منه شاعراًَ تخاف منه الأوزان والكلمات ..أما أبو الطيب المتنبي فقد كانت معاناته ذات شكل خاص تعلقت بأفكاره وطموحه في الحياة لذا فقد كانت قصائده تقوم بهذا الدور الذي كلفها به خير قيام وقد تمكنت منه هذه المعاناة حتى قال :

            أنا الذي نظر الأعمي إلي أدبى

                        وأسمعت كلماتى من به صمم

إذن فالمعاناة ليست  نتيجة لفشل عاطفي أو اجتماعي ، وإنما هي إحساس خاص ينشأ لمقاومةالظروف  العاطفية والاجتماعية والسياسية والفكرية كما يراها  الشاعر أو الأديب . وربما تكون معاناة المجتمع نفسه هي إحساس بفشل مقاومة أفراده العاطفية والاجتماعية والسياسية والفكرية .

من هنا نستطيع أن نقول إن معاناة شاعرنا ما هي إلا مزيج من أحاسيس كثيرة صادقة نشأت عنده نتيجة لأخطاء مختلفة يقع فيها مجتمعه الصغير تارة ومجتمعه الكبير تارة أخرى .وأحياناً تتداخل مجموعة من هذه الأحاسيس فتولد نوعاً خاصاً وفريداً من المعاناة التي لا يملك الشاعر إلا أن يصورها كما هي عليه لدرجة يصعب معها أحياناً تحديد الدوافع  والأسباب .

فشاعرنا أحياناً يكتب أبياتاً يخيل إلى القارئ أنها في الغزل ، وما أن يفرغ من قراءتها حتى تبدو على حقيقتها فتكون في حب التراب :

                        مـــرت ليالي

                        النـــوم  ابالي

                        فرق البــريدن

                        تب ما حـلالي

                        مشغول  عليك

                        يا بلــدي بالي

وقد كان للغربة في حياة الشاعردور كبير في تجسيد معاناته :

            عذاب الغربة أضناني

                        ومتين يا بلسمي الشافي

            أعود وأرجع والاقيك

                        وأنوم في حضنك الدافي

وشاعرنا يقول في مقدمة ديوانه :

                         للغلابا وللتعابا

                        وللزويل الفي  مهالك الحب وكر

                        وبرضــو سـاير وما شي  حفيان

                        راح نهارو وليلو فوق شوك  الكتر

فالشاعر ههنا ربط بين معاناته ومعاناة أهله من الغلابة والتعابة ومتعثري الخطا في ظلام الحب الدامس وهو ربط يشير إلى ما ذهبت إليه من التداخل والتشابك لأنماط المعاناة كيفما تشكلت .وهذه المعاناة أحياناً تتشكل في صورة آهات كثيراً ما ينطق بها الشاعر كمسكنات أو مهدئات لألمه ولكنها لا تقوم بالعلاج الكامل للظواهر التي تصنع المعاناة وإن كانت تطفئ بعض نيرانها :

                        منــي كل الهـم يزيــلو

                        ما اتلقالي محال مثيـــلو

                        كت بلقي وكت مقيـــلو

                        حاضنو شايلو جريد نخيلو

                        جنب صغارو طرب يميـلو

                        ديمة يرشــفو سلســبيلو

                        إلا آه آه يا حليـــــــلو

                        جا الغــراب حلـق بديلو

وهذه لوحة رائعة من لوحات شاعرنا تشرح تلك الطيرة التي اعتلته حين وضع الغراب رمز الشؤم بديلاً لطائره رمز الإلفة والمودة والسلام .وهذه اللوحة على روعتها الظاهرة تعالج بين أسطرها جوانب من الظلم الاجتماعي لا يكاد تخفى على القارئ .

والشاعر فوق هذا كله سريع التأثر والانفعال بما يخالف طبيعته الشاعرة من أحداث ، لذا فقد كان تقسيمي في أول البحث لمراحل شعره منطلقاً من هذا التأثر الذي سأعالجه الآن بشئ من التفصيل :

                        عاش عاض الصبر يا روحي

                                     قاعـد فوق جميرو

                        كل ما جات نسيمتن هابي

                                                 بتزيد لي ســعيرو

                      توقد نارو باقي ويبــــكي

                                   مو لاقي البجــيرو

                     وإت هاجرو وكمان يا روحي

                                   ماك جايب خبيـرو

ولكن هذه المعاناة لم تظل قيداً  يكبل الشاعر مدى العمر وإنما هناك لحظات صفو وصفاء يستريح في ظلالها بين الحين والآخر :

            ودع وفات رحل غير عودة ليل مأساتي

            طـل صباحو واشـرق نورو في ساحاتي 

            ريـدك ضـو يا محبـوبة كل سـاحاتي

            صـار لي الدليـل يا روحي في طرقاتي

            قبـلك كت غـرقان في بحـور دمعاتي

            في ألمي وعـــذابي أنا كت فاقد ذاتي

ثم تعود المأساة من جديد ! وفي ثوب جديد !

            يـوم  قام والقافلة وساب الدار

            لـوح بي ايـدو وروح ســـار

            غاب في لحظات ما ودع جار

            خـايف كان ودع ناسـو يصد

            وطــن الأحبـاب ما بتــخلي

وقبل أن نمضي معاً في تحليل هذه الأبيات ، يجدر بنا أن نلاحظ استخدام الشاعر لواو المعية في قوله [ يوم قام والقافلة وساب الدار ] وهو استخدام لم نعهده في شعرنا الشايقي .

ولكن دعونا ننظر كيف برر الشاعر تلويحه باليد تجنباً للوداع ! فالشاعر لم يقل إنه لوح لأنه يخشى المحبوب ، ولم يبالغ في وصف الوداع كما بلغ الحال بابن عبد ربه الأندلسي حين قال :

            ودعتني بزفرة واعـتناق    ثم نادت متي يكون التلاقي

            إن يوم الفراق أفظع يوم   ليتني مت قبل يـوم الفـراق

ولكنه خشى أن يجبره وداعها ، على البقاء ، وكيف لا ، ووطن الأحباب ما بتخلى ! ولذلك جرت الأبيات على لسانه على سبيل الحكمة

والشاعر الأندلسي رغم مبالغته استطاع توديع المحبوب الذي فشل صاحبنا رغم اعتداله أن يفعله ! .

ولم تمض سنوات ، حتى أعقبت  تلك العقبة الكأداء ، لحظات من صفو وصفاء :

            يا ملهم فنــوني     وغايب عــني لكن

            بلقـاك في عيوني    جــوة قليبي ساكن

            يا خضرة جـروفي   يا غــيمة جفــافي

            أديت روحي عافي    واصبح ألمـي ساكن

            منك كان هنــايا    أفــراحي وغـــنايا

            يا محراب هوايا     وســري الجوة كامن

والشاعر في رحلاته وتنقلاته داخل الوطن الحبيب وخارجه  تتجسد في مخيلته المعاناة في ثوب جديد :

                        مغستي رحل تلوت الليل

                        شقاوتي رحل تلوت الليل

                        مسالكي ضلمة  ما تنشق

                        سكت  روح نويرة الفرقة

                        جوة الجوف تسوي البـق

                        مشيت لا زاد أشيلو معاي

                        ولا زولــن معا اتــرفق

ويمضي فيقول :

                        أقول يا ليل وافارق الدار

                        واجر فوق الوداع مسدار

                        أنوني أنوني شاق الـواح

                        محال ارتاح

                        أدخل إيدي في رحــلي

                        تراباً فيهو تسوي الكـون

                        تراب بلدي

                        أشيل منو أشم وارتـــاح

            أشم طيبة أهلي منو تفوح

            ترد الروح ! .

وهذا هو سر المعاناة في ثوبها الجديد . ثم ما يلبث الشاعر أن يبحث عن تلك البسمة التي حجبتها عن سماء ذاته تلك المعاناة العميقة :

                        عاد منادي الشــوق ينادى

                        داير أرجع لي بـــــلادى

                        أحضن الحلوين وأغـــرد

                        وأنسي آلامي وســــهادى

                        أصلو ما كان في مــرادى

                        يـوم افـارق داري غــادى

                        أهجـر الأوطان وأســـافر

                        بالســـنين يبقى ابتعـادى

                        حبي ليــها وريـدي زادى

                        شايلو في عيوني وفــؤادى

                        ليها برسل كل حـــروفى

                        دمعة الشـوق بس مـدادى

وليت أن الشاعر قال » دمعة الأشواق مدادى « ليتفادى بكل طريق كلمة بس التي تعد حشوا ظاهراً .

والمعاناة  كما أشرنا آنفاً  لا تعنى معاناة الشاعر في ذاته وإنما معاناته حين يحس بمعاناة من حوله ، وفي هذا المجال كتب الشاعر مجموعة رائعة من القصص القصيرة والتي كنت أود لو يتاح لنا من الوقت ما يمكننا بإفراد دراسة مستقلة عنها .

وتكفي هنا الإشارة إلى بعض  هذه القصص الرائعة التي تصور معاناة المجتمع في أدب الشاعر ، كما تصور معاناة الشاعر في ثوب آخر :

اجتازت في صبر كل حواجز الدخول إلي عالمه السحري . لحظة مرورها عبر البوابة الأخيرة . عـوي الذئب ، فعضت أصبع الندم ، بيــد أن » ليت « كانت قد اختفت من كل اللغات . !

والقصة قصيرة جداً ولكنها ممتعة ورائعة ومعبرة ، فهى تقوم على مبدأ الوحدة الذي يشمل وحدة الدافع ، ووحدة الهدف ، ووحدة الحدث ، ثم وحدة الانطباع .

وهي رغم قصرها الشديد جداً ، ينطبق عليها تعريف القصة القصيرة الذي سطره الكاتب الأمريكي » أدرجار آلن بو « حيث يقـول : ” إن القصة القصيرة عمل روائي نثري لا تجاوز قراءته المتأنية ما بين نصف الساعة والساعتين ” .

ويحسن بي ههنا ، وقبل أن أعلق على هذه القصة ، أن أشير إلى شاعرنا البحر، الأستاذ محي الدين فارس ، الذي صور مأساة فلسطين المسلوبة ، في بيتين من الشعر،  يشهدان لنا بالإبداع الأدبي الرائع الذي يكمن وراء القصة القصيرة وملامحها ، يقول :

كانت مدينتهم وكان علي        أبوابها التاريخ يحتشد

أبنــاؤها يتساقطون  علي        أعتـابها لكنها تلد !!

وختاماً فوجه المعاناة في هذه القصة بيّن ، ومع ذلك فانظر إلى دقة المفردات وقوة التعبير في هذه العبارات » اجتازت في صبر« و» كل حواجز الدخول « ثم » عوي الذئب فعضت أصبع الندم « و» بيد أن ليت اختفت من كل اللغات « .

فهل يا ترى بقي في القصة شئ لا يشير إلى المعاناة ؟ . إنها معاناة المجتمع كما تبديها معاناة الشاعر ، بل هي معاناة الشاعر كما تؤلفها معاناة المجتمع !.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.