رحيل الشيخ العاشق: رسالة إلى بروف أبوشوك

رسالة إلى أخي البروفيسور أحمد إبراهيم ابوشوك حول رحيل الشاعر عبدالله محمد خير

**********************
في صباح الفجيعة
كان حرياً بنا أن نصمت حين مات الكلام!!
أخي العزيز جداً … البروفيسور أحمد أبو شوك
أكتب لك بعد أن أحرقت الفجيعة قلبي المفعم بالشجن والشوق لتلك الجلسات التي كنا نحيط فيها (كالمناجل في النار) بشاعرنا الراحل عبد الله عبد الله محمد محمد خير الذي اشتهر بين أحبائه من أهل السودان بعبدالله محمد خير أو “الشاعر” كما كان يحلو لنا جميعاً أن نسميه ، وبعد أن أضحي التنائي المطلق بديلاً عن تدانينا. لقد قرأت ما كتبته يداك العبقريتان عن حياة الشاعر الراحل رحمه الله وامتدت يدي للرد عليك ثم أمسكتْ طوعاً وكرهاً وحاولت أن استأنس بالبكاء فلم يؤنسني البكاء حينما اقرورقت العيون بالدموع، وقالت هيت لك فليس للبكاء أنس!
كنت حينما تلقيت خبر الوفاة انتقل بداري من مكانا إلى مكان آخر في مدينة الرياض وكنت لا أقوى حينها على سماع أي خبر، خيراً كان أم شراً، ولكنه وعد الله الحق إذا جاء لا يؤخر . قاومت مشاعري وصبري ليوم أو بعض يوم وترحمت عليه وكان معي مجموعة من العمال يحركون الأشياء على الأرض مثلما كان يحركها “الشاعر” على أبيات قصائده إلا أنني لم أكن أطرب كما كنت أفعل في الماضي!! وكيف أطرب وقد قال شاعرنا
ما بدري كيف الغربة غير المغترب وما بضوق عذاب الضربة غير زولن ضرب
وها أنا ذا اليوم قد جمعت بين المصيبتين، بل إن المصيبتين قد اجتمعتا على! وذهبت في حالي
حزيناً لا يقوى على البكاء، ومؤمناً لا يقوى على الصبر.
وبعد سويعات كانت جميع الكتب التي تحركت من مكانا في الدار الأولى قد تحولت إلى مكانا في الدار الأخرى وكان قد استقر بها المقام على رفوفها تماماً ، وكنت للتو قد لزمت سريري الذي مهد لي منذ دقائق فكانت المفاجأة العجيبة في انتظار الزمان والمكان !!!
فما أن لزمت فراشي وأنا مهدد بالإعياء والتعب والصدمة حتى انقلبت على جنبي الأيمن لأجد كتاباً واحداً فارق صفوف الكتب واستقر على الفراش منهكاً مصدوماً مثلي وكأنما وضعه جان منهك مصدوم مثلنا !! كتاب لم أره منذ أكثر من خمس سنوات ولم أكن متوقعا أنني أملك منه نسخة أصلاً !! كتاب أسماه صاحبه أشجان الشيخ العاشق!!
عجبت للدنيا ٠٠٠ ما هذا التوارد؟ وأين كان هذا الكتاب؟؟ ومن ألذي أتي به إلى هنا وليس معي إلا أربعة عمال من الهنود الحمر مكبلين لا يعرفون العربية، ولا تود العربية أن تعرفهم !! قلت في نفسي ربما كان هذا هو قانون الجذب الذي حدثني عنه صديقي المتميز جداً مامان!!
فأمسكت بالكتاب وقلت دعك من كيف وصل إليَ ،، وانظر ما فيه لعله يحمل بمجيئه ههنا رسالة من نوع ما ، وأصبحت أقلب كفي على ما حواه هذا الكتاب العجيب فإذا بي أجد في مدخله قصيدة بعنوان الرسالة الأولى!! وفي خاتمته الرسالة الأخيرة ،، أي والله أنا حقاً الرسالة الأخيرة!!!
ثم غلب على ظني أنني الآن قد تهيأت بدرجة ما لقراءة الكتاب رغم خطأ التوقيت، فبدأت
بالصفحة الأخيرة بحسبان أنا الصفحة التي انطوت ومعها الكثير من الشموخ والعبقرية والشجن والحنين، فكان أن وقعت عيناي على بيتين طالما أحببتهما جاءا على “سطوح” هذه الصفحة يقول:
سباني على ام ابوها الشوق واماني هي لي مشتاقي
ويا فرقا كبير بلحيل ما بين شوقا وأشواقي
تشوفني خريف بشارة خير شلع في الحلي براقي
وأشوفا أمل بعيد وقريب تعيد وترتب أوراقي
فقلت يا سبحان الله! الآن فهمت !! هذه هي الرسالة التي حملها إلىَ الكتاب فالقصيدة يقول
مطلعها :
قريب لو في العمر باقي
قريب تلقوني بيناتكم وسط خلاي وعشاقي!!!

ثم أصررت على البحث في الكتاب عن رسائل أخرى لعلها تخفف المصاب، وتعينني على تحمل هذه النائبة فلم أمض كثيراً حتى وقعت عيناي على قصيدة أخرى لكم أحببتها وتذكرت يوم أن قرأها لي وأنا في بيته العتيق قبل عشرين سنة في شارع الريل بالبطحاء بمدينة الرياض وكنت حينها قادماً للتو من السودان، وكنت في ضيافته تلك الليلة لأستمع إلى ما فاتني من عذب قصائده خلال شهور
كانت قد فرقت ببينا . قصيده يقول مطلها:
بعشقك مهما السنين سرقتني أيام الشباب
بعشقك مهما رؤاي غتاها من تالاك ضباب
مهما يقولو الناس على جن ومصاب
بعشقك من غير حساب!!
إنني لم أكد أنسى كيف طلبت منه في تلك الليلة أن يقرأها على مرات ومرات وكيف أني طال ليلي بيد أني لم أنم، فبدأت أترنم بها على أوتار طنبور أخينا الصديق الشاعر صلاح الرشيد والذي كان يسكن مع شاعرنا الراحل فما أشرقت شمس تلك الليلة حتى كانت القصيدة أغنية جاهزة للأداء وقد سجلتها بصوتي الذي لم يسعفني وقتها لأشعر بشئ من الطرب الذي أحدثه ذلك اللحن في نفسي !!
وأرسلتها في الصباح الباكر لأخينا الفنان العملاق صديق أحمد فكانت ميلاداً لأغنية دخل طرف ثالث بين ثنائييها بلا استئذان !!!
قلت في نفسي هل من رسالة في هذه القصيدة ؟؟ وأطلت النظر بين حروفها فإذا بي أجد على نارها بعض قبس !! وجدته يقول :
بعشقك وما شفت إنسان أدمن الريد ومنو تاب
وبعشقك وما شفت مجنون غير يمسو فقيرو طاب
إلا خايف عمري يكمل ولسه في صبري العقاب
وكت بمد أيامي لولا أن لكل أجل كتاب!!!
إلا رحمك الله يا شاعر الجمال والخضرة والإنسانية ،، لقد افنيت عمرك كله في تحقيق هدفك النبيل الذي أضحي مثالاً للشهامة والرجولة والوفاء:
رضيت افكاري تتشتت عشان كل الشمل يتلم
رضيت أكون ضمير إنسان بيسعد ومرة يتألم
رضيت انا اشقى شان اسعد بنات العم
رضيت أنا أشقي شان أرضي الاهل من جم
رضيت بالكان وكل الكان ومافي ندم
رضيت أسيب لسان الحال بكل شجاعة أتكلم
واقول للدنيا كل الدنيا في كلمات
المكتوبة مابتنفات والمقسومة ياها الجات
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا لفراقك يا عبدون لمحزونون
د. توفيق الطيب البشير

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.