عقد المقاولة في الفقه الإسلامي والتطبيقات المعاصرة

عقد المقاولة في الفقه الإسلامي والتطبيقات المعاصرة

د. توفيق الطيب البشير

يعتبر التشريع الإسلامي صاحب السبق المتفرد في إخراج عقد المقاولة للناس بضوابطه المعروفة حالياً ، فقد كان السائد طبقاً للقانون الروماني أن الشخص يعمل في خدمة صاحب العمل، وكان العامل في البداية ينتمي لفئة العبيد، ولذلك اعتبر العمل عاراً لا يقوم به السادة الرومان الأحرار. ثم تطور الأمر في عصور متأخرة إلى صورة تقترب من العبودية وهي “السخرة”, وكانت التزاماً على عاتق الفلاحين نحو أمراء الإقطاع أن يعملوا مجاناً لديهم مقابل طعامهم وإقامتهم في أكواخ صغيرة، فيحقق أمير الإقطاع أرباحاً هائلة على حساب جهودهم وعملهم. وكان الامتناع عن العمل بالسخرة جريمة يتولى أمير الإقطاع بنفسه محاكمة الفلاحين عليها ويصدر أحكاماً ينفذها بواسطة رجاله، بالسجن أو الجلد. ([1])

ولما أشرقت شمس الإسلام وهو دين الحرية، ظهرت حقوق العامل في الأجر الذي يكون ثمرة جهده وعرقه ، وحريته في العمل لدى من يشاء، وأن يرفض العمل الذي لا يطيقه أو يتناسب مع قدراته أو كفاءته أو ميوله أو معتقداته. وكانت هذه ثورة الحرية الأولى في تاريخ الإنسان، وقد كـرم الإسلام العامل واعتبر عمله مصدراً  للدخل المشروع ، بل واعتبر العمل عبادة، وحرم ظلم أصحاب الأعمال للعمال فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” وحرم الإسلام ظلم العمال وإرهاقهم، وحظر تكليف العامل بما لا يطيق ، وكان المحتسب في العصور الإسلامية الزاهية، يراقب كل ذلك في الأسواق، ويقوم بتعزيز من يرهق عماله، بعقوبة فورية تأديباً له وعبرة لغيره.

وكانت العلاقة التي بيناها هي علاقة عمل “الأجير الخاص” وهو العامل بالمفهوم الحديث، الذي يحتبس جهده لصاحب عمل واحد مقابل أجر.

وخرج الفقه الإسلامي الرائد بنظرية أخرى جديدة وهي ” عقد الأجير المشترك” وهو عقد المقاولة أو عقد التوريد بالاصطلاح القانوني الحديث. والفقه الإسلامي هو أول فكر قانوني في التاريخ نظم أحكام هذا العقد ووضع له القواعد التفصيلية قبل أن تعرفه أوروبا بزمن طويل، فقد كان المعروف حتى زمن انتشار الفقه الإسلامي هو العامل بمعنى الذي يعمل بالسخرة لدى أمير الإقطاع.

وقد تعلم الأوروبيون أحكام هذا العقد على يد فقهاء المالكية في الأندلس، ثم عادوا إلى بلادهم وبدأوا يطبقون ما تعلموا من فقهاء الإسلام، فظهر ” قانون نابليون” وهو أول عمل قانوني في أوروبا مستوحىً من الفقه الإسلامي.

والأجير المشترك طبقاً للفقه الإسلامي هو من يستأجر لعمل معين، ولكن لا يحتبس عمله لشخص معين، وبالتالي فيجوز له أن يتعاقد على أداء الأعمال مع مختلف الأشخاص في وقت واحد.

والمعقود عليه في عقد الأجير المشترك (المقاول) ، أي ” محل الالتزام” في الاصطلاح الحديث هو العمل أو الأثر أو الوصف الذي يحدثه الأجير المشترك بعمله.

ولا يستحق الأجير المشترك الأجر إلا إذا سلم عمله إلى المستأجر (صاحب العمل). ويلتزم الأجير المشترك (المقاول) بالشروع في تنفيذ العقد عقب إبرامه، وبأن يسلم نفسه للعمل المعقود عليه. وإذا تضمن عقد الإجارة (المقاولة) شرطاً بأداء الأجرة في وقت معين، اتبع ذلك الشرط وإن لم يتفق على ذلك، فليس له أن يطلب شيئاً من الأجرة المتفق عليها إلا بعد إتمام العمل.([2])

ويلتزم المؤجر (المقاول) بتسليم المأجور في أول مدة الإجارة بما يعد تسليمه عرفاً، ويجب عليه أن يمكن المستأجر (صاحب العمل) من الانتفاع على الوجه المسمى في العقد.([3])

وذهب الفقه الإسلامي إلى تقرير حق المقاول (الأجير المشترك) في حبس محل العمل حتى يستوفي أجرته، إن كان له أثر ظاهر في المحل كالبناء. وقد عرف للأجير المشترك (المقاول) إنابة غيره في القيام بالأعمال إذا لم يشترط في العقد أن يقوم بنفسه بالعمل، وهذا هو أول تنظيم قانوني في التاريخ لعقد المقاولة من الباطن. وقد ذهب الفقه الإسلامي إلى أن مال المستأجر (صاحب العمل) في يد الأجير المشترك (المقاول) أمانة، فهو يضمنه إذا أتلف المال نتيجة التعدي منه أو التقصير: وهذا هو أول تنظيم قانوني في التاريخ لالتزام المقاول بالتعويض عن حدوث ضرر لأموال صاحب العمل نتيجة فعل عمدي أو خطأ من المقاول أو أحد تابعيه.([4])

وإذا اعترضت الأجير ظروف لا دخل لإرادته فيها ولا يمكنه تفاديها، ومن شأنها استحالة تنفيذ التزاماته، يعفى من تنفيذ الالتزام أو التأجير فيه، وهو ما يعرف في الفقه الغربي باصطلاح “القوة القاهرة” وقد كان الفقه الإسلامي سباقاً في هذه الفكرة أيضاً قبل الفكر الغربي، فعرف الفقهاء “نظرية الجوائح” وهي خاصة بالكوارث التي تحل بالثمار أصلاً، ولكن عممت على العقود.([5])

تعريف عقد المقاولة:-

عقد المقاولة هو يتعهد فيه المقاول بأن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد به الطرف الآخر، وهو صاحب العمل. ([6])

 وإذا نظرنا إلى عقد المقاولة نجد أنه ذو شقين: فمن ناحية، يكون محل الالتزام فيه هو العمل الذي يقوم به المقاول والذي يقابله من الوجه الآخر التزام صاحب العمل بأداء أجر المقاولة. ومن ناحية أخرى، نجد أن حق المقاول في أجر المقاولة، يقابله حق صاحب العمل في الحصول على أعمال المقاولة كاملة، فكل حق يقابله التزام.

ويجب التنويه إلى أن اصطلاح “مقاولة” لا يقتصر عل أعمال البناء والتشييد أو التركيب والتشغيل والصيانة، بل  يشمل توريد السلع والخدمات، ويشمل تقديم الأعمال الفكرية والمهنية، فكلها تعتبر قانوناً للمقاولات.

وعقد المقاولة شبيه إلى حد كبير بعقد العمل إلا أنه يختلف عنه ، في أن المقاول لا يخضع لإشراف صاحب العمل ولا لرقابته، بينما العامل يعتبر تابعاً لصاحب العمل، وللأخير عليه سلطة الرقابة والإشراف. وبالتالي فإن صاحب العمل يسأل بالتعويض عن الأضرار التي تلحق بالغير نتيجة أخطاء العمال التابعين له، بينما لا يعتبر المقاول تابعاً، وبالتالي فإن الأخير لا يسأل عن أفعاله طبقاً لمسئولية المتبوع عن التابع.([7])

وهذه التفرقة القانونية الحديثة تدين بالفضل لأول فكر قانوني في التاريخ فرق بمهارة بين الأجر الخاص والأجير المشترك، وهو الفكر الإسلامي الرائد.

وعند النظر لالتزامات المقاول في عقود المقاولات الإنشائية، كمقاولات المعمار وتركيب الآلات، الأدوات الصحية، مقاولات الكهرباء، إنشاء شبكات المجاري والمياه، شق الطرق وإنشاء الكباري ومحطات توليد الطاقة، يكون التزام المقاول التزاماً بنتيجة، فهو لا يبرأ من الالتزام إلا بتحقق النتيجة المطلوبة، ولا يكفي أن يقرر أنه بذل الجهد المطلوب منه. وإنما هو يبرأ من الالتزام إذا ثبت أن عدم تحقق النتيجة المطلوبة لا يرجع إليه، بأن يقيم الدليل على أنها لم تتحقق بسبب القوة القاهرة، أو السبب الأجنبي: فعل الدائن بالالتزام، أو فعل الغير.

دور وأهمية عقد المقاولة في الفقه الإسلامي المعاصر:

وفي عصرنا الحاضر يلعب عقد المقاولة دوراً بالغ الأهمية ولاسيما في قطاع الصناعة وقطاع المقاولات العامة المتعلقة بالبناء والتشييد وقطاع الخدمات وذلك نظراً لتحويل كثير من المهام التنفيذية من الممول إلى المقاول المنفذ سواء كان فرداً أم مؤسسة أم شركة وقد أصبح بإمكان المصارف الإسلامية وبيوت التمويل الإسلامية الأخرى أن تتعاقد على مشاريع ضخمة بطريق الاستصناع ثم توكل العمل المراد القيام به استصناعاً إلى مقاول مختص بطريق المقاولة من الباطن ليقوم بتنفيذ العمل وتسليم المستصنع وفقاً للشروط والمواصفات التي وضعت بعقد الاستصناع ولا تختلف هذه الشروط بين الاستصناع والمقاولة إلا في أمور محددة كالمدة والسعر حيث يكون السعر في عقد المقاولة والمدة أقل منه في الاستصناع ، وهي خدمة كفتنا كثيراً من شرور الربا في زمان الربا والفتن والزلازل والمحن والله المستعان .

المراجع:

1- القواعد القانونية السعودية والدولية لعقود المقاولات والتوريد ؛ للمستشار أحمد منير فهمي ، من مطبوعات مجلس الغرف التجارية السعودية.

(1) أستاذنا فضيلة الشيخ على الخفيف: أحكام المعاملات الشرعية- القاهرة – 1944- ص 410 ، 411.

 (2) مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل – تأليف القاضي أحمد عبد الله القاري – تحقيق الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان ومحمد إبراهيم أحمد علي–  الطبعة الأولى–  الرياض- 1401- المواد 573، 574، 575.

(3) الشيخ علي الخفيف- المرجع السابق- ص 411.

(4) شيخ الإسلام ابن تيمية- الفتاوى الكبرى- ج 30- ص 262 وما بعدها حيث يعالج الفقيه النظرية معالجة عامة في العقود- جمع وتحقيق عبد الرحمن بن القاسم- الرياض- 1398هـ

(5) الدكتور عبد الرزاق السنهوري- ج 7- المجلد (1) – ص 5.

(6) د. السنهوري- المرجع السابق- ص 12.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف مقال فقهي. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.