الشروط في البيع بين المجيزين والمانعين

 الشروط في البيع بين المجيزين والمانعين

د. توفيق الطيب البشير

عقد البيع من أهم العقود المطبقة دولياً ، وهو من العقود اللازمة في الفقه الإسلامي وله أبواب وبحوث مستفيضة ومبسوطة في كتب الفقهاء ، توضح كنهه وضوابطه وشروطه وهو من العقود التي تندرج تحتها كثير من صور المعاملات المشروعة وغير المشروعة ولذلك فهو من العقود التي تحتاج لكثير من الحرص والحذر عند صياغته حتى تتفق ضوابطه ومقاصده الكلية مع متقضيات الشريعة الإسلامية.

وهو جائـز بالكتاب والسنة والإجماع ، أما الكتاب فقول الله تعالى : [وأحل الله البيــع] البقرة (275) ، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم “البيعان بالخيار ما لـم يتفرقا” متفق عليه ، وأما الإجماع فيقول ابن قدامة : “أجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة والحكمة تقتضيه لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه وصاحبه لا يبذله بغير عوض ، ففي شرح البيع وتجويزه شرع طريق إلى حصول كل واحد منهما إلى غرضه ، ودفع حاجته.([1])

الشروط في البيع وحكمها :

وقد اختلف الفقهاء ، رحم الله من مات منهم ، اختلافاً كبيراً حول صحة الشروط المندرجة تحت عقد البيع ، فمنهم من أجاز الشرط والبيع ، ومنهم من أجاز البيع وأبطل الشرط ، ومنهم من أبطلهما معاً ، ويرجع ذلك إلى اختلاف مواقفهم من أحاديث الشروط المعروفة ، ولتحديد هذه المواقف المختلفة يجدر بنا أن نسرد بعضاً من هذه الأحاديث لبيان مواقف الفقهاء منها :

فالحديث الأول هو حديث جابر المتفق عليه ، وفيه أنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً واشترط ظهره إلى أهله.([2])

والحديث الثاني ، حديث بريرة ، وهو متفق عليه “فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط”.([3])

والحديث الثالث حديث جابر الذي أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه “لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك”.([4])

والحديث الرابع هو الذي رواه أبو حنيفة في مسنده : “قال : حدثنا محمد ابن سليمان الذهلي ثنا عبد الوارث بن سعيد قال دخلت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلي وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة فقلت ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً ، قال البيع باطل والشرط ، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال البيع جائز والشرط باطل ، فأتيت ابن شبرمة فسألته فقال : البيع جائز والشرط جائز ، فقلت : سبحان الله ، ثلاثة من الفقهاء من أهل العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة ، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا ، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط”.([5])

ولهذه الأحاديث وغيرها ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى بطلان البيع والشرط وأجاز ابن شبرمة وابن أبي ليلى البيع والشرط جميعاً وأجاز الإمام أحمد الشرط الواعد .

وقد اختلف الفقهاء حول صحة البيع الذي يقترن بشرط واحد ، ولهم في ذلك أقوال:  فالحنفية ([6]) يرون أن الشرط في البيع على أوجه ، إما أن يشترط شرطاً يقتضيه العقد كشرط الملك للمشتري في المبيع  أو شرط تسليم الثمن ، أو تسليم المبيع ، فالبيع جائز لأن هذا ثابت بمطلق العقد ، فالشرط لا يزيده إلا وكادة.

وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ظاهر ، فذلك جائز أيضاً كما لو اشترى نعلاً ، وشراكاً بشرط أن يحذوه البائع لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي ، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة جرحاً بيناً وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ظاهر.

فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد لأن الشرط باطل في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه فلهذا فسد به البيع.

وإن لم يكن فيه منفعة لأحد فالشرط باطل والبيع صحيح . قال الإمام السرخسي : “وحجتنا في ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط ، ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به العقد”.

وللشافعية رأي قريب من هذا ، ولكنهم اختلفوا مع الأحناف فيما كان فيه مصلحة لأحد ، فقد جاء في مغني المحتاج ، أنه إذا شرط في البيع شرط فإن كان شرطاً يقتضيه العقد كتسليم المبيع والرد بالعيب ونحوهما صح العقد لأن الشرط المذكور مبين لما يقتضيه العقد ، وكذلك يكون العقد صحيحاً إن شرط شرط لا يقتضيه ولكن فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والضمان أو الكفالة لأن الشرع ورد بجوازه ولأن الحجة تدعو إليه.([7])

أمـا المالكية ([8]) ففي مذهبهم أن الشرط في المبيع يقع على ضربين:

الأول :     أن يشترطه بعد انقضاء الملك مثل من يبيع الأمة أو العبد ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري فمثل هذا قالوا يصح فيه العقد ويبطل الشرط.

الثاني :     أن يشترط شرطاً يقع في مدة الملك ، وهذا قسموه إلى ثلاث : الأول أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه ، وإما أن يشترط على المشتري منعاً من تصرف عام أو خاص وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع.

فإن كان الشرط يقتضي منع المشتري من تصرف في المبيع خاص أو عام فإن البيع باطل مع بطلان الشرط ولذلك لا يجوز لأنه من الثنيا مثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أو لا يبيعها . أما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيرة لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر وقيل السنة فذلك جائز.([9])

أما الحنابلة فيرون أن الشرط الواحد لا يبطل البيع ، قال الإمام أحمد : “إذا قال أبيعك هذا الثوب وعلي خياطته وقصارته فهذا من نحو شرطين في بيع وإذا قال أبيعكه وعلي خياطته فلا بأس به أو قال أبيعكه وعلي قصارته فلا بأس به إنما هو شرط واحد.([10])

وقال ابن قدامة : “لم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط إنما الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في بيع كذا ذكره الترمذي وهذا دال بمفهومه على جواز الشرط الواحد.([11])

وقال في موضع آخر ولا يبطل البيع بشرط واحد كما أنه يصح اشتراط منفعة البائع في المبيع مثل أن يشتري ثوباً ويشترط على بائعه خياطته قميصاً أو جرزة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم.([12])

وقد أورد شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة عظيمة في العقود والشروط فيما يحل منها ويحـرم ، ويصح منها ويفسد ، وقدم ملخصاً مفيداً لأقوال الفقهاء نورد ههنا بعضاً مما قال :” ومسائل هذه القاعدة كثيرة جداً ، والذي يمكن ضبطه منها قولان أحدهما : أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك ، الحظر . إلا ما في ورد الشرع بإجازته ، فهذا قول أهل الظاهر ، وكثير من أصول أبي حنيفة تبنـى على هذا وكثير من أصول الشافعي وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد ، فإن أحمد قد يعلل أحياناً بطلان العقد بكونه لم يرد به أثر ، ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه ، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ، ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل ، أما أهل الظاهر فلم يصححوا ، لا عقداً ولا شرطاً إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع ، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه ، واستصحبوا الحكم الذي قبلـــه ، وطردوا ذلك طرداً جارياً ، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم . وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شرطاً يخالف مقتضاها المطلق ، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ، ولهذا له أن يشـرط في البيع خياراً ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال . ولهذا منع بيع العين المؤجرة ، وإذا ابتاع شجراً عليه ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته ، وإنما جوز الإجارة المؤجرة ، لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة ، أو عتق العبد المبيع ، أو الانتفاع به ، أو بشرط المشتري بقاء الثمر على الشجر ، وسائر الشروط التي يبطلها غيره .

وخلاصة القول فإن الشروط التي هي من مقتضى العقد جائزة لأنها مكملة لمقصود العقد مبينة لأحكامه ، وأما الشروط التي تخالف مقتضى العقد فإن كانت لا تخالف الشرع وفيها مصلحة للطرفين أو لأحدهما مع رضا الآخر ،  أو دعت إليه حاجة ماسة ، فإن الأرجح جوازه والله أعلم .   

المراجع:

[1] – المغني  (طبعة هجر – القاهرة ، 1993) ج 6 ، ص 5.

[2] – سنن الترمذي ، حديث رقم 1253 ، ج3 ، ص 554

[3] – صحيح البخاري ، حديث رقم 2424 ، ج2 ، ص 904

[4] – سنن أبي داود ، حديث رقم 3504 ، ج3 ، ص 283 – سنن النسائي ، حديث رقم 4630 ، ج7 ، ص 295 ، وسنن الترمذي ، حديث رقم 1234 ، ج3 ، ص 535

[5] – مسند أبي حنيفة ، أحمد بن عبد الله الأصبهاني (الرياض : مكتبة الكوثر ، 1415هـ) ج2 ، ص 160

[6] – د. حسن الشاذلي ، نظرية الشرط في الفقه الإسلامي (القاهرة : دار الاتحاد للطباعة ، غير مؤرخ) ص 178 وما بعدها.

[7] – مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ، محمد بن أحمد الخطيب (بيروت : دار الفكر ) ج2 ، ص 31

[8] – المنتقى شرح الموطأ ، سليمان الباجي ، بيروت : دار الكتاب الإسلامي ، ج4 ، ص 212

[9] – بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، ابن رشد القرطبي (بيروت : دار الفكر ، غير مؤرخ) ج2 ، ص 221

[10] – سنن الترمذي ، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك ، ج3 ، ص 534 .

[11] – المغني ، مرجع سابق ، ج6 ، ص 166

[12] – نفس المرجع ، ص 165​

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.