التمويل بالتضخم هل حقاً يخدم التنمية ؟

التمويل بالتضخم هل حقاً يخدم التنمية ؟

د. توفيق الطيب البشير

التمويل التضخمي هو زيادة في الإنفاق القومي الحكومي عن الإيرادات الجارية ، تمول عن طريق التوسع في الإصدار النقدي الجديد ، أو عن طريق  الائتمان المصرفي ، وهو بذلك يعبر عن الزيادة في الإنفاق الحكومي بالقياس إلى الإيرادات الحكومية المتاحة ، من ضرائب ورسوم ، ومن قروض وخلافه .

ويعرف التمويل التضخمي ، أو التمويل بالعجز ، بأنه زيادة الطلب الكلي الاستهلاكي عن العرض الكلي ، نتيجة التوسع في الإصدار النقدي الجديد ، أو التوسع في الائتمان المصرفي ، يترتب عليها ارتفاع مستمر في الأسعار ، وانخفاض في قيمة النقود . ([1])

ويعرف التمويل التضخمي أيضاً ، بأنه وسيلة لتمويل الموارد من الاستهلاك الجاري ، إلى التكوين الرأسمالي ، عن طريق توليد النقود أو الائتمان ، بسد الفجوة التي تظهر في تمويل خطة التنمية الاقتصادية ، وفي الميزانية الرأسمالية الحكومية . ([2])

والتمويل التضخمي ينظر إليه كوسيلة منفصلة من وسائل التمويل التنموي  إلا أنه في حقيقته صورة من صور الادخار الإجباري ، يتم تكوينه قسراً من خلال عملية التوسع النقدي عن طريق الإصدار الجديد ، أو الائتمان المصرفي ، وإن كان لا يرتب نفس الأثر الذي يترتب على الادخار المحلي الحقيقي لاختلاف النتائج المترتبة على كل منهما . ([3])

ولاشك أن المؤيدين للتمويل بالتضخم ، ينظرون في الأساس إلى كونه وسيلة سهلة للحصول على رأس المال ؛ لتغطية العجز في موارد التمويل الأخرى من المدخرات الفردية ، كما يرون أنه حل سريع لمشكلة النقص في موارد الإنتاج الضرورية ، لأغراض التنمية الاقتصادية .

وفي رأينا ، أن استحداث نوع من الادخار الإجباري لدى الأفراد عن طريق هذا الأسلوب ، أمر ليس مؤكداً ولا متيقناً في كل الأحوال ، وتحت كل الظروف ، ولاسيما في حالة الدخول المنخفضة أصلاً ؛ لأن ارتفاع الأسعار المستمر ، يؤدي بالأفراد إلى حالة ينعدم فيها الدخل تماماً ، والفرد لم يكد يبلغ حتى حاجته الأساسية من السلع الاستهلاكية مما قد يؤدي بالأفراد إلى وضع أشد خطورة في المستقبل ، ويدفع بالأمة نحو مزيد من التخلف وإن كان الهدف هو في الواقع هو تحقيق التنمية  .

وقد انقسم الفكر الاقتصادي الوضعي ، حيال علاقة التضخم بالنمو الاقتصادي إلى ثلاثة اتجاهات نجملها ، فيما يلي : ـ ([4])

الاتجـاه الأول : ـ 

ذهب الفريق الأول إلى اعتبار أن التضخم ضرورة من ضرورات التنمية ، واعتبره من الدوافع القوية المحركة ، والحافزة على النمو الاقتصادي المنشود ، إذ أن التوسع في الإنفاق النقدي ، يؤدي إلى تحفيز تضخم منتظم في الإنتاج والنمو الاقتصادي ؛ وذلك لأن تغيرات الطلب النقدي الفعلي هي التي تتحكم في حركة النشاط الإنتاجي والاقتصادي باعتباره العامل المؤثر والفعال في تقدير حركة التضخم والانكماش الاقتصادي . 

ويستند أصحاب هذا الاتجاه ، على فعالية الدور الذي تقوم به حركة ارتفاعات الأسعار التضخمية في توليد وحفز مكونات الادخار الاستثماري وتراكم رأس المال ، إذ أن توظيف حصيلة الأرباح الناتجة عن ارتفاع الأسعار التي تخص الفئات المدخرة من المستثمرين والمنتجين في تمويل الاستثمارات التنموية المخططة يدفع حركة الإنتاج للأمام ويضاعف بالتالي من حصيلة الأرباح الجديدة والمتولدة كدعائم رئيسة تقوم عليها حركة التكوينات الادخارية مما يؤدي بالتالي إلى رفع مستويات الإنتاج الكلي والدخول والعمالة والذي يدفع بدوره إلى النمو الاقتصادي المنشود . 

ومن أنصار هذا الاتجاه ، كينز وبعض أتباعه ، واقتصاديو مدرسة شيكاغو  مثل فريدمان ،  وهم يرون أن التوسع في الحقن النقدي يعتبر شرطاً كافياً ، وضرورياً للنمو الاقتصادي ، ولكن في المدى الطويل فقط ، على خلاف كينز الذي اعتبره في المديَيْن الطويل والقصير معاً .

الاتجـاه الثاني : ـ

وقد ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن التضخم ضرورة من ضرورات التنمية إلا أنه شرط غير كافٍ للنمو الاقتصادي ، فهو لا يصل إلى درجة ( الضرورة ) ، أو الرغبة الملحة ، ولا تبلغ العلاقة السببية بينه وبين النمو الاقتصادي درجة الذروة ، وإنما تعتبر علاقة تعاونية ليس أكثر .

ولا يعتبر أصحاب هذا الاتجاه أن التضخم عامل مسبب للنمو الاقتصادي ولكنه شرط ضروري لحفز النمو وتحقيقه . فالدخل المتولد عن الإنفاق الكلي تتوقف فعاليته على حفز النمو الاقتصادي ، وحركة النشاط الإنتاجي على ما يصاحبه من توسع في الحقن النقدي التضخمي .

والذي يتأمل هذه الفكرة ، التي ينادي بها أصحاب هذا الاتجاه ، يتضح له ما يكتنفها من غموض ، وما يحيط بها من تضارب وتضاد ، فهم يقولون إن التضخم ضرورة من ضرورات التنمية ، وفي الوقت نفسه ، يقولون لا يصل إلى درجة الضرورة . ويقولون إن العلاقة السببية بينه وبين النمو الاقتصادي لا تبلغ درجة الذروة ثم يقولون إن التضخم لا يعتبر عاملاً مسبباً للنمو وإنما هو شرط ضروري لحفز النمو وتحقيقه ! .

الاتجـاه الثالث : ـ

 أما أصحاب هذا الاتجاه ، فقد نظروا نظرة مغايرة مؤداها أن التضخم ذو طابع سلبي في عملية النمو  بل هو معيق للنمو الاقتصادي ، وليس حافزاً له ، وهم بذلك يعتبرون أن التضخم ليس له علاقة سببية مع النمو الاقتصادي .

ومن الذين قادوا هذا الاتجاه ، الاقتصادي أليس ( H.S. Ellis ) وهو يرى أن دوافع النمو دوافع اقتصادية تتمثل في الدخل والثروة والضمان الاقتصادي ، وغير ذلك ،  وهذه الدوافع الاقتصادية هي التي تساهم في حفز وتوليد عوامل النمو الاقتصادي ، من تقدم فني واكتساب المهارات وتوليد التكوينات الرأسمالية والنمو السكاني في حين أن دور العرض النقدي ينحصر فقط في نقل الدوافع الاقتصادية تلك ومضاعفة دورها في عملية النمو وليس في توليده ، وبذلك فهو يرى أن التضخم النقدي ليس من العوامل المسببة للنمو وإنما هو من عوامل تيسير تحققه .

 الموازنة والترجيـح : ـ

والذي نميل إليه ونراه أقرب إلى القبول ، هو وجود علاقة بين التضخم والتنمية ، إلا أن التضخم ليس ضرورة من ضرورات التنمية ، كما ذهب أصحاب الاتجاه الأول والثاني ، كما أنه ليس معرقلاً دائماً  لها ، على حد تعبير أصحاب الاتجاه الثالث ، وإنما يلعب التضخم دوراً في عملية التنمية ذا فائدة محدودة ويعطي أصحاب السلطات النقدية في البلاد فرصة مؤقتة لالتقاط الأنفاس .

وفي تقديرنا أن الأصل في اللجوء إلى التمويل التضخمي للتنمية هو الضرورة وذلك حين تعجز الوسائل الطبيعية الأخرى من ادخار وقروض حسنة وغيرهما عن تحقيق القدر المنشود من التنمية عندئذ يمكن استخدام هذا السلاح ولفترات ينبغي ألا تطول لئلا تهدم الآثار الناتجة ما يتم بناؤه بالتمويل التضخمي .

موقف الإسلام من التمويل بالتضخم : ـ

وكما رأينا قبل قليل ، لم يتفق الاقتصاديون في الاقتصاد الوضعي ، على فعالية التمويل التضخمي وقد تضاربت آراؤهم بين مؤيد ومعارض ومن يتتبع حججهم ومنطقهم يجد أن الأمر لم يعد محسوماً بالنسبة لهم .

أما الإسلام فقد وقف موقفاً محدداً من هذه القضية ، إذ يقرر أنه لا حاجة للتمويل التضخمي في ظل سيادة مبادئه ومنظماته التمويلية والاستثمارية ، هذا بالإضافة إلى أن الأصول الكلية للشريعة الإسلامية تمنع الضرر والضرار ، وعند الضرورة يرتكب الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى ، أو بعبارة أخرى يرتكب أخف الضررين ، أما في حالة وجود ضرر ومصلحة فيعمل الإسلام قاعدة فقهية عظيمة هي ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) ([5])

وباستعراض وجهة النظر الإسلامية حول استخدام التمويل التضخمي تنشأ الحاجة لمعرفة مفهوم الضرورة ليتبين لنا عدم الحاجة الحقيقية إلى هذا النوع من التمويل عند توفر إمكانية أدوات أخرى أفضل فالدولة الإسلامية ، ترتكز في إيراداتها على عناصر عديدة ومتنوعة من ادخار حكومي وقروض حسنة وصادرات ومنتجات وغيرها ، وهذا في حد ذاته يكفي إذا ما طبق الاقتصاد الإسلامي بجوانبه كلها وذلك لعدة اعتبارات : ([6])

أولا ً:     إن الاستثمارات في إطار الاقتصاد الإسلامي مخططه ومضبوطة على نسق من الأولويات  وبالتالي فهي ليست من الكبر والضخامة بحيث لا تستطيع المدخرات الحقيقية في المجتمع أن تقوم بتمويلها  وهناك مشاريع كثيرة ذات نفقات عالية ، وإنتاج غير نافع ، لا تجد طريقها إلى النور في الاقتصاد الإسلامي .

 ثانياً :    إن الإسلام يحرم التبذير ، ويمقت الإسراف ؛ ولذلك فالمسلم بطبعه وبدينه ، رشيد الاستهلاك ، قيِّم على نفسه وأسرته ، محافظ على ثروته وأمواله معتدل في إنفاقه . هذا الاستهلاك الرشيد يؤدي ـ لا محالة ـ لتحقيق فوائض في دخول الأفراد المنتجين . وهذه الفوائض لم يتركها الإسلام لتبقى عاطلة فلا بد من تثميرها ولذلك فالاستثمار واجب إسلامي والاستهلاك الرشيد كذلك وكلاهما يؤثر ويتأثر بالآخر .

وعليه ، فإن الإسلام لم يمنع التمويل التضخمي منعاًْ باتاً ، ولكنه وضع التدابير الكفيلة بعدم اللجوء إليه ، إلا في حالات الضرورة ؛ وذلك لشدة خطره وسوء آثاره إذا ما استخدم بلا حاجة ماسة  ومتى ما نشأت ضرورة لاستخدامه  فينبغي في هذه الحال ، أن يكون سلوكاً منضبطاً وبحسابات صحيحة وفي حدود تمنع أو تحد من التأثيرات الجانبية للتضخم ، وعندها ستسلم الدول الإسلامية من مخاطر التمويل بالتضخم ، إن شاء الله ، وسنقول عندئذ للمتأثرين بأنماط التنمية الغربية ( كفانا الله شر بقرات زيد ) .

المراجع:

 [1]  –  د. غازي حسن عناية ، التمويل بالتضخم في البلدان النامية ( الرياض : دار الرشيد للنشر ، 1401 هـ ( ص 20 .

 [2]  –  د. محمد مبارك حجير ، السياسات المالية والنقدية لخطط التنمية الاقتصادية ( القاهرة : الدار القومية للطباعة) ص 175 .

[3]  –  –  د. غازي حسن عناية  ، المرجع السابق ، ص 19 .

 [4]  –  نفس المرجع  ، ص 128 .

 [5]  –  أحمد الريسوني ، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ( الرياض :الدار العالمية للكتاب الإسلامي ، ط2 ، 1992 ) ص 267 .

 [6]  – د. شوقي دنيا ، تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي ( بيروت : مؤسسة الرسالة ) ص 573.​

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.