الدكتور توفيق الطيب ومنتدى التوثيق الشامل

الدكتور توفيق الطيب ومنتدى التوثيق الشامل
??كذب المنجمون ولو صدقوا??
بروفيسور أحمد إبراهيم أبوشوك
تربطني بالأخ الصديق الدكتور توفيق الطيب البشير علاقة ود قديم وتليد، يرجع تاريخها إلى شتاء عام 1981م، عندما أقامت رابطة أبناء مروي بجامعة الخرطوم حفلاً ساهراً على خشبة مسرح نادي كورتي الثقافي، ووقتها كنا طلاباً بمدرسة كورتي الثانوية، وكان لمثل هذه الحفلات طعم ومذاق خاص في ذائقتنا الطالبية، التقيت بالأخ توفيق على هامش ذلك الحفل، وعرفته بنفسي عن طريق قريبه وزميلي في الدراسة الأخ كمال حسن مُحُمد، ومن مدخل صداقته مع ابن عمتى العقيد عبد الحكيم محجوب محمد الخير الذي زامل الأخ توفيق في مدرسة الدبة الثانوية. ثم توطدت أركان هذه العلاقة عندما تمَّ قبولي بكلية الآداب جامعة الخرطوم، ووقتها كان الأخ توفيق طالباً مُجِداً، ومتعدد المواهب بالسنة الثالثة بكلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية، ورئيساً لرابطة أبناء مروي بجامعة الخرطوم. كانت غرفة الأخ توفيق بداخلية بحر الزراف تختلف عن بقية الغرف في البركس، لا نظام فيها، ولا رابط لها، بحكم أنها كانت تعج بالضيوف من كل حدب وصوب، يؤمها طلاب الأطراف من رابطة أبناء مروي الذين كانوا يدرسون في كليات الطب، والزراعة، والبيطرة، والتربية، وأذكر منهم الأخ الصديق الدكتور محمد أحمد سيدأحمد التوم، والدكتور الشاعر محمد بادي، فضلاً عن الزائرين المحليين أمثال صالح عثمان صالح، وعبد الله عثمان، وفضل المولى عثمان، وعطا أحمد عبد الجليل، وأولئك الذين يأتون بين الحين والآخر، وأذكر منهم مولانا الدكتور أبومدين الطيب، والفنان صديق أحمد، والمادح ود سعيد، والمرحوم الأستاذ المحامي عبود أحمد عثمان، والأستاذ المحامي موسى الحسين حاج موسى، والمرحوم الشاعر عبد الله محمد خير. وبالرغم من ضيق المكان وزحمة الزمن، إلا أن الأخ توفيق كان قادراً على أن يوفر إلى أولئك الزوار الراتبين متسعاً في المكان، وذلك بفضل المراتب المخزنه بطريقة غير قانونية في دولابه العتيق، وفسحة في الزمن المستثمر على حساب زمنه الخاص، يسامرهم في الموضوعات المحببة إليهم، ويتواصل معهم بالزيارات المتبادلة، وبين هذه وتلك يجد وقتاً لواجباته الدراسية، وأركان النقاش الجاذبة بقهوة النشاط، وليالي الاستماع الممتعة التي كانت تعقدها رابطة أبناء مروي بانتظام. فتثمنياً لهذا النشاط الدافق كان الأخ المرحوم محمد طه محمد أحمد، بالرغم من موقفه التنظيمي الرافض للتنظيمات الجهوية، إلا أنه كان يرى أن رابطة أبناء مروي بجامعة الخرطوم أفضل من جمعية الطلاب الإفريقية التي يمثل لحمها وسداها الأخوة من أبناء جنوب السودان، لأنها كانت تقدم بعض الخدمات الاجتماعية والثقافية لأهلنا الطيبين في منطقة مروي.
تخرَّج الأخ توفيق مع كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعة وهو يحمل في ذاكراته الفوتغرافية كثيراً من الذكريات الجميلة، إلا أن تخرجه من جامعة الخرطوم لم يحرمنا من التواصل معه في إطار تلك الذكريات، ولم يقطع الصلة بنا، حيث التقينا مرة أخرى في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، ووقتها كان الأخ توفيق يدرس منتسباً في قسم اللغة العربية، كلية الآداب، وشخصي منتسباً في كلية الحقوق في الجامعة نفسها. وبعد تخرجي من جامعة الخرطوم عام 1987م التقيتُ بالأخ توفيق مرة أخرى في رحاب جامعة أمدرمان الإسلامية، وحينها كان الأخ توفيق مشغولاً بتأهيل نفسه لنيل درجة الماجتسير في الاقتصاد الإسلامي، بجانب وضعه الوظيفي الممتاز بالبنك الأهلي، وإقامته الدائمة بمدينة أمبدة، وشخصي الضعيف أيضاً مشغول بإعداد درجة الماجستير في قسم التاريخ والحضارة الإسلامية، بجامعة أمدرمان الإسلامية، وملتمساً العذر في إيجاد سكنٍ مجانيٍ في داخلية البركس بجامعة الخرطوم، لأني كنتُ مسجلاً في بند العاطلين عن العمل. فعلَّق الأخ توفيق على هذه المواقف المتطابقة من حيث التوجه الأكاديمي والمختلفة من حيث التخصص الدقيق، بقوله: “والله يا أبوشوك لم يبق لنا إلا الالتحاق بجامعتي جوبا والجزيرة”؛ لأن عدد الجامعات في السودان لم يتجاوز خمس جامعات في ذلك الزمن الطيب، وهي (الخرطوم، وفرع القاهرة، وأمدرمان الإسلامية، وجوبا، والجزيرة). هذا هو توفيق الذي عرفناه في رحاب جامعة الخرطوم التي كانت جميلة ومستحيلة، وفي رحاب الجامعات الأخرى، وافترقنا في سبل كسب العيش الذي فرضته عوادي الزمن الجائر، وضيق ذات اليد في السودان، فهاجر توفيق إلى الأراضي المقدسة كشأن معظم المغتربين السودانيين، أما هجرتي فكانت هجرة دراسية إلى إحدى البلاد التي تتجمد حيتانها من الجليد، كما يقول أستاذنا الراحل الطيب صالح، ألا وهي النرويج، ذلك البلد القصي جغرافياً، والقاسي مناخياً لابن أمراة كانت تأكل القديد في منطقة قنتي.
توفيق من الأريحية إلى السلفية
انقطع التواصل بيننا لفترة من الزمن، إلا أن أخبار توفيق كانت ترد لي بين الحين والآخر من بعض الأصدقاء، وبعض المنجمين ولو صدقوا. ومن أكثر الأخبار التي أثارت انتباهي ودهشتي قول أحد المنجمين بأن الأخ توفيق انتقل من أريحيته المبسطة إلى سلفية قابضة، حيث أطال لحيته، وقصر لجلبابه، وأعدم كل أدبيات التراث التي كانت بحوزته، وأعلن الصوم عن تجاذب الحديث حول ذلك الأثر الجميل، وما يحمله من كفرانيات. وعلل الراوي قوله: بأن كتابات الدكتور توفيق أصبح معظمها يدور حول الأدبيات السلفية، وعضد هذا الزعم حسب فهمه القاصر بإصدارة توفيق عن كتاب: “قطر الندى وبل الصدى”. ناقشتُ هذا الأمر بحرقة مع الأخ الصديق الدكتور يسن محمد يسن، ولم أجد عنده أجابة شافية. ثم بعد ذلك بدأت أتحين الفرص، لأجد مدخلاً لمعرفة التحول الذي طرأ على شخصية الأخ توفيق، ووقتها لم أكن منـزعجاً بأن يطيل الأخ توفيق لحيته، أو يقصر لجلبابه، فهذا شيئ طبيعي لإنسان نشأ في بيئة علم ودين، وآثر العمل في بلد تجعل الإنسان أكثر قرباً إلى الله سبحانه وتعالى، إذا التزم بأدبيات السلف الصالح رضوان الله وسلامه عليهم، إلا أن الأمر الذي أقلق مضجعي هو قضية التشدد في الدين، علماً بأن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قال: “لا يشاد أحد الدين إلا غلبه”. فالتشدد المدقع في النصيَّة لم يكن من ديدن الأخ توفيق الذي أعرفه، وإن طال الزمن. فكانت السانحة المحزنة التي دحضت زيف ادعاء المنجمين وإن صدقوا وفاة شيخ العاشقين الشاعر عبد الله محمد خير، وذلك عندما كتبتُ كلمة وفاء في حق الشاعر المرهف بعنوان: “مات الشاعر عبد الله محمد خير (1946-2008م) بعد أن نادى بالزمان شاهداً في رسالته الأخيرة”، وبعثت صورة منها إلى الأخ توفيق، فجاء رده على النحو الآتي:
“أخي العزيز جداً … أحمد أبو شوك
أكتب لك بعد أن أحرقت الفجيعة قلبي المفعم بالشجن، والشوق لتلك الجلسات التي كنا نحيط فيها (كالمناجل في النار) بشاعرنا الراحل عبد الله عبد الله محمد محمد خير، الذي اشتهر بين أحبائه من أهل السودان بعبدالله محمد خير أو “الشاعر”، كما كان يحلو لنا جميعاً أن نسميه، وبعد أن أضحى التنائي المطلق بديلاً عن تدانينا.
لقد قرأت ما كتبته يداك العبقريتان عن حياة الشاعر الراحل رحمه الله، وامتدت يدي للرد عليك، ثم أمسكتْ طوعاً وكرهاً، وحاولت أن استأنس بالبكاء، فلم يؤنسني البكاء حينما اغرورقت العيون بالدموع، وقالت هيت لك فليس للبكاء أنس! كنت حينما تلقيت خبر الوفاة انتقل بداري من مكانها إلى مكان آخر في مدينة الرياض، وكنت لا أقوى حينها على سماع أي خبر، خيراً كان أم شراً، ولكنه وعد الله الحق إذا جاء لا يؤخر . قاومت مشاعري وصبري ليوم أو بعض يوم، وترحمت عليه، وكان معي مجموعة من العمال يحركون الأشياء على الأرض مثلما كان يحركها “الشاعر” على أبيات قصائده؛ إلا أنني لم أكن أطرب كما كنت أفعل في الماضي!! وكيف أطرب؟ وقد قال شاعرنا
“ما بدري كيف الغربة غير المغترب * وما بضوق عذاب الضربة غير زولن ضرب”،
وها أنا ذا اليوم قد جمعت بين المصيبتين، بل إن المصيبتين قد اجتمعتا على! وذهبت في حالي حزيناً لا يقوى على البكاء، ومؤمناً لا يقوى على الصبر.
وبعد سويعات كانت جميع الكتب التي تحركت من مكانها في الدار الأولى، قد تحولت إلى مكانها في الدار الأخرى، وكان قد استقر بها المقام على رفوفها تماماً، وكنت للتو قد لزمت سريري الذي مهد لي منذ دقائق، فكانت المفاجأة العجيبة في انتظار الزمان والمكان!!! فما أن لزمت فراشي، وأنا مهدد بالإعياء والتعب والصدمة، حتى انقلبت على جنبي الأيمن لأجد كتاباً واحداً، فارق صفوف الكتب، واستقر على الفراش منهكاً مصدوماً مثلي، وكأنما وضعه جان منهك مصدوم مثلنا!! كتاب لم أره منذ أكثر من خمس سنوات، ولم أكن متوقعا أنني أملك منه نسخة أصلاً!! كتاب أسماه صاحبه أشجان الشيخ العاشق!! عجبت للدنيا؟ ما هذا التوارد؟ وأين كان هذا الكتاب؟ ومن الذي أتي به إلى هنا، وأنا ليس معي إلا أربعة عمال من “الهنود الحمر” مكبلين لا يعرفون العربية، ولا تود العربية أن تعرفهم!!
قلت في نفسي ربما كان هذا هو قانون الجذب الذي حدثني عنه صديقي المتميز جداً مامان!! فأمسكت بالكتاب، وقلت دعك من كيف وصل إليَ ، وانظر ما فيه لعله يحمل بمجيئه ههنا رسالة من نوع ما، وأصبحت أقلب كفي على ما حواه هذا الكتاب العجيب، فإذا بي أجد في مدخله قصيدة بعنوان الرسالة الأولى!! وفي خاتمته أجد الرسالة الأخيرة، أي والله أنها حقاً الرسالة الأخيرة!!!
ثم غلب على ظني أنني الآن قد تهيأت بدرجة ما لقراءة الكتاب رغم خطأ التوقيت، فبدأت بالصفحة الأخيرة بحسبان أنها الصفحة التي انطوت، ومعها الكثير من الشموخ والعبقرية والشجن والحنين، فكان أن وقعت عيناي على بيتين طالما أحببتهما جاءا على “سطوح” هذه الصفحة يقول:
سباني على أم أبوها الشوق وأماني هي لي مشتاقي
ويا فرقاً كبير بلحيـل ما بين شوقا وأشــواقي
تشوفني خريف بشـارة خير شلع في القبلي براقي
وأشوفا أمل بعيــد وقريب تعيد وترتب أوراقي
فقلت يا سبحان الله! الآن فهمت !! هذه هي الرسالة التي حملها إلىَ الكتاب. فالقصيدة يقول مطلعها:
قريب لو في العمر باقي
قريب تلقوني بيناتكم وسط خلاي وعشاقي!!!
ثم أصررت على البحث في الكتاب عن رسائل أخرى لعلها تخفف المصاب، وتعينني على تحمل هذه النائبة، فلم أمض كثيراً حتى وقعت عيناي على قصيدة أخرى لكم أحببتها، وتذكرت يوم أن قرأها لي وأنا في بيته العتيق قبل عشرين سنة في شارع الريل بالبطحاء بمدينة الرياض، وكنت حينها قادماً للتو من السودان، وكنت في ضيافته تلك الليلة استمع إليه في ما فاتني من عذب قصائده خلال شهور قليلة كانت قد فرقت بيننا. قصيدة يقول مطلعها:
بعشقك مهما السنين سرقتني أيام الشـباب
بعشقك مهما رؤاي غتاها من تالاك ضباب
مهما يقولو الناس علي جـن استصـاب
بعشقك من غير حساب!!
إنني لم أكد أنسى كيف طلبت منه في تلك الليلة أن يقرأها على مرات ومرات، وكيف أني طال ليلي بيد أني لم أنم، فبدأت أترنم بها على أوتار طنبور قديم، وضعه لنا أخونا الصديق الشاعر صلاح الرشيد، والذي كان يسكن مع شاعرنا الراحل، فما أشرقت شمس تلك الليلة حتى كانت القصيدة أغنية جاهزة للأداء، وقد سجلتها بصوتي الذي لم يسعفني وقتها لأشعر بشيء من الطرب الذي أحدثه ذلك اللحن في نفسي !! وأرسلتها في الصباح الباكر ( في شريط كاسيت) لأخينا الفنان العملاق صديق أحمد، فكانت ميلاداً لأغنية دخل طرف ثالث بين ثنائييها بلا استئذان !!!
قلت في نفسي هل من رسالة في هذه القصيدة ؟؟ وأطلت النظر بين حروفها، فإذا بي أجد على نارها بعض قبس !! وجدته يقول:
بعشقك وما شفت إنسان أدمن الريد ومنو تاب
وبعشقك وما شفت مجنون غير يمسو فقيرو طاب
إلا خايف عمري يكمل ولسه في صبري العقاب
وكت بمد أيامي لولا أن لكل أجل كتاب!!!
إلا رحمك الله يا شاعر الجمال والخضرة والإنسانية، لقد أفنيت عمرك كله في تحقيق هدفك النبيل الذي أضحي مثالاً للشهامة والرجولة والوفاء:
رضيت أكون ضمير إنسان بيســـعد ومرة يتألم
رضيت افكاري تتشتت عشان كل الشمل يتلم
رضيت انا اشقى شـان اسعد بنات العـم
رضيت أنا أشقى شان أرضي الاهل من جم
رضيت بالكان وكل الكان ومافي ندم
رضيت أسيب لسان الحال بكل شجاعة أتكلم
وأقول للدنيا كل الدنيا في كلمات
المكتوبة مابتنفات والمقسومة ياها الجات
إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا “عبدون” لمحزونون، “إنا لله وإنا إليه راجعون”. (انتهى نص رسالة الدكتور توفيق).
رحم الله الشاعر عبد الله الذي أطربنا حياً، وزال عنا الغشاوة ميتاً، لأن موته أخرج الأخ توفيق عن صمته الطويل، وجدد التواصل بيننا مرة أخرى، وأكد لنا زيف الذين وصفو ابن الأراك الأغر بالتشدد المفسد لتعاليم الدين وتقاليد المجتمع، علماً بأن الدين لغة هو معتقدات الناس، وتقاليدهم، وأعرافهم، وعاداتهم التي تواضعوا عليها، وأدمنوا الحديث عنها ترويحاً للنفس. والإسهام الثاني الذي يؤكد زيف التنجيم جاء في إطار الندوة الخاصة بتأبين الشاعر عبد الله، والتي نظمها بعض الأخوة في فندق القصر الأبيض بالرياض في 19 فبراير 2009م، ودعوا الأخ توفيق متحدثاً رئيساً فيها. وفي تلك الندوة أُدهش الحضور، والمستمعون لوقائع الندوة لاحقاً، بإبداع الشاعر عبد الله المقيم في ذاكرة الأخ توفيق التي لا تزال مسكونة بتراث أهله الطيبين عند نواحي السافل. وبهذه الكيفية غُسل تراب النمطية الذي أثير جدلاً حول شخصية الأخ توفيق، فالنمطية السلفية، كما يطلق عليها البعض، يجب أن لا ينظر إليها من خلال مظهر السلفية الحسن، المتمثل في طول اللحية وقصر الجلباب، بل يجب أن ينظر إلى جوهرها القائم على تعاليم الدين الحقه، وفهم تقاليد المجتمع الواسع، لأن ذلك الجوهر يعكس طرفاً من الخيوط الناسخة لشخصية الأخ توفيق الموسوعية، التي ترتكن إلى التسامح الرحب في التعامل مع الآخر، والعمق الغائر في جوف التراث وعرضه، والفهم الثاقب لمعان الدين. في تلك الندوة استشهد الأخ توفيق بجملة من القصائد الحسان للشاعر عبد الله، وشرح بعضاً من أبياتها، التي وقفتُ عند شرحه لها كثيراً، لأنه استطاع ببراعته المعهودة أن يكشف الحجب عن خفايا نصوصها الفنية، ومعانيها الدلالية، وأذكر منها على سبيل المثال استشهاده بالأبيات الآتية:
تعاين في الكرسي واحد
تآمن بي الله واحد
تشوف الفي زمانو واحد
عيار عشرين فوقو واحد
يتجلى في معاني هذه الأبيات طرف خفي من قيمة الإبداع الفني عند “عبده قاموس الحروف”، وقدرته الفائقة في استخدام المفردة الواحدة بدلالات مختلفة، ومعاني متجانسة، فضلاً عن حلاوة جرسها الموسيقي، وتناغم أوزانها وتنساق قوافيها. فقد استطاع الأخ توفيق في ندوة الرياض أن يميط اللثام عن بعض الشواهد الجمالية الكامنة في شعر شيخ العاشقين، بأسلوب مبدع، وعرض جذَّاب، يلازمهما عمق في التناول، وتبحر في فهم الجوهر والمضمون. وفوق هذا وذاك فإن تلك الشواهد تؤكد بأن مكتبة الأخ توفيق لا تزال تذخر ببعض التسجيلات النادرة التي يمكن أن نذكر منها فصول المصالحة التي جرت بين الشاعر اسماعيل حسن والفنان محمد وردي. وفي هذا يقول الأخ توفيق: “أولاً الشكر الجزيل لأخي وصديقي مامان الذي شجعني كثيراً، وبصفة مستمرة، وألح عليّ للبحث عن اللقاء الذي كاد يضيع بين أوراقي ومستنداتي، والحمد لله الذي مهد لي أن أنشر هذا اللقاء الرائع جداً بعد أكثر من 26 عاماً، وهو اللقاء التاريخي الذي أعقب المصالحة التاريخية بين الشاعر السوداني البارع سماعين (إسماعيل) حسن وفنان إفريقيا الأول الأستاذ محمد عثمان وردي، والتي هيأت لها الأجواء رابطة مروي بجامعة الخرطوم عام 1982م، بقيادة الدكتور المبدع الإنسان الرائع صاحب الخلق الفريد والمواهب المتفردة محمد احمد سيدأحمد التوم. حمداً لله أنني وجدت اللقاء مكتوباً، حيث نشرته الرابطة في ذلك العام بالعدد الأول من مجلة مروي، ولكن المفاجأة التي أسعدتني بقدر بالغ أنني وأنا أبحث عن المجلة في أوراقي القديمة فإذا بي أجد أصل التسجيل، الذي تمَّ في اتحاد الفنانين بين الموسيقار وردي والشاعر الفذ سماعين حسن ليلة المصالحة.” وبجانب وثائق المصالحة التي جرت فصولها في اتحاد الفنانين يوجد في مكتبة الأخ توفيق المفترى عليها كماً مهولاً من قصائد الشاعر عبد الله محمد خير، التي يؤديها الفنان المبدع صديق أحمد بصوت رخيم، ومثيرة للإعجاب والشجن. فلا جدال أن كل هذه الشواهد تدل على خلاف ما ذهب المنجمون إليه بأن الأخ توفيق قد أعدم مكتبته الصوتية، بل أن واقع الحال يؤكد العكس، بأن الأخ توفيق لا يزال وسيظل لدية تقدير خالص لأدبيات تراث أهلنا الطيبين عند نواحي السافل، حتى لو عفا لحيته، وقصَّر لجلبابه، وحف شاربه. ومن أصدق الشواهد على ذلك قصيدة “يا حلوتي” التي وثق لها في صفحات منتدى التوثيق الشامل، علماً بأنه يعلم أنها تحمل بين حناياها ثلة من قضايا الغزل البري والحب العذري، التي ربما لا تروق لمزاج بعض المتنطعين في الفقه، الذين لا يميزوا بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع. وبعض مقاطع القصيدة تقول:
غداً يا حلوتى سأراك تبتسمي
ولست أحب شيئاً غير أن القاك تبتسمي
سافعل كل ما يرضيك رغم تغور الألم
برغم الضيق والآهات والألم
سيدفعنى الهوى لتسلق القمم
لكى القاك تبتسمي
ساكسر حائط الوهم
وابنى العز والأمجاد والكرم
لتبتسمي
أضيع تمزقاً لأراك تبتسمي
وحين أراك تبتسمى أزف الشوق فى النغم
يا أملي الذى أفديه ياعلمي
ويا شرفي الذي أحميه يا قسمي
فما أنا من ذوي السلطان والخدم
وليس لدي شيئاً غير ما أمليه للقلم
وما ينساب عبر فمي
وحبك هاهنا يجري مكان دمي
أذن فهواك يدفعني
فسوف أحطم الصنم
وأخرج نازحاً للنور من ظلم
لكي القاك تبتسمي
وللماضى الذى قد فات تنتقمي
وأصرخ يا جراحاتي لتلتئمي
وداعاً عهد همي . حسرتي . سأمي
وأهتف يا بطاقة حبي يا رغمي
تعالي …….
تعالي كانبساق الضوء وابتسمي
وحينئذ ستبتسمي
وفى الأعماق ترتسمي
وأضف إلى ذلك شرحه الطريف للمجادلة التي جرت فصولها بين امرأة سعودية والشاعر عبد الله محمد خير الذي كان طريح الفراش بمستشفى الشميسي السعودي، وذلك عندما لحظت المرأة السعودية أن شيخ العاشقين يطالع فيها بطريقة أثارت حياءها البدوي، وجعلتها تسأله مستنكرة: يا أخي أيش فيَّ بطالع، فجاء رد الشاعر عليها نظماً فيما يلي:-
تسألي فيَّ أشيك فيك يا أخي بطالع
بطالع في قمر فتق الخمار طالع
بطالع في برق بـهَّر ختف شالع
بطالع في القوام الأمرد الفارع
بطالع في جمر بي وبلاك والع
بطالع في النفس لا يبقى مو طالع
فلا جدال أن كل هذه الشواهد ومثيلاتها المختارة تؤكد أصالة معدن الدكتور توفيق التراثي، الذي لا يصدأ وتعلق به الشوائب، وفي الوقت ذاته تصب في معين اهتماماته بتراث أهل السودان بألوان طيفه الثقافية والسياسية والاجتماعية المختلفة، ومحاولته لتوثيق ألوان هذا القوس قزح الفاقعة في وعاء معلوماتي أُطلق عليه اسم “منتدى التوثيق الشامل”.
نظرات في منتدى التوثيق الشامل
تدل فكرة المنتدى نفسها على ملكة من ملكات الإبداع المعششة في مخلية الدكتور توفيق، والتي جعلته قادراً أن يعمِّر الأرض حيثما قَطَن، لأنه إنسان مسكون بتلك القيم الإبداعية، وله طاقة خلاقة لا تهدأ إلا عند شواطئ الابتكار والخروج عن تفكير النسق، لذلك لم ينتم الأخ توفيق إلى أي حزب سياسي، بل جعل همه منداحاً فوق القيود الحزبية والانتماءات الجهوية. ومن ثم جاء اسم المنتدى الاسفيري الذي أسسه بـ”منتدى التوثيق الشامل”، شاملاً لكل ضروب المعرفة الإنسانية، وقد ضمَّن ذلك في رسالة المنتدى عندما خاطب الأخوة الأعضاء بقوله: “نرحب بكم شركاء لنا في التوثيق لكل مبدع سوداني، سواء كان ذلك في الحقل العملي، أو الأكاديمي، أو الفني، ولا يهم إن كان هذا المبدع مشهوراً، أم غير مشهور، فرسالتنا أن نظهر المبدعين السودانيين للعالم من حولنا، وليس لدينا أي توجه حزبي، أو عرقي، أو جهوي، أو عنصري، فنحن نوثق للشعب السوداني ومن أجل السودان. ورسالتنا هي أن نكون المرجع الأول في التوثيق الشامل، ورؤيتنا أن نقدم أفضل أنموذج للتوثيق للباحثين وطلاب العلم والمعلومة، وهدفنا أن يجد كل مبدع مكانه بيننا، وأسلوبنا الأمانة في النقل والإشارة إلى المصدر.”
وحقاً كانت الاستجابة الأولى لهذه الدعوة الكريمة من نفر خير من المبدعين المهمومين بتراث منطقة مروى الكبرى، والذين كان شأنهم في هذا الشأن مثل شأن شاعرنا عمر الحسين محمد خير (ت. 2005م) الذي كان مولعاً بتراث منطقة مروي الكبرى، لأنه كان يرى فيه تلاقحاً ثقافياً فريداً بين دقائق البيئات المحلية وتجليَّات الفعل الإنساني، وتراكماً تاريخياً لقيم الأديان المتعاقبة التي سادت تباعاً في تلك الربوع، وتوارثاً اجتماعياً يستمد منهجه من شبكة العلاقات التكاثرية بين أهل مروي والمقيمين في حماهم. وبهذه النظرة التثاقفية الثاقبة حاول الشاعر عمر الحسين أن يخرج ثقافة الشايقية من ضيق الانتماء إلى القبيلة الواحدة إلى سعة الانتساب المتعددة المصادر، الناظمة لمواعين القيم الثقافية وشبكة تراث أهل الدار. وفي الاتجاه ذاته تشخص نظرات الأديب اللوذعي الدكتور توفيق الطيب، منطلقةً من ثوابت رؤية منفتحة تجاه التناسل الاجتماعي داخل محيط مروي الكبرى، والتحاور الثقافي بين مفردات نسيجها الديمغرافي في تناغم أريحي بين تحديات المكان المتغيرة، بتغير الدهر واستجابات الإنسان المتطورة في كنفها. وبجانب نظرات الدكتور توفيق تنداح دائرة جهود الأستاذ صلاح هاشم السعيد والباحثة الميدانية الأستاذة فاطمة أحمد علي التي استطاعت أن تجمع شذرات مهمة من شتات تراث منطقة مروي الثقافي في سِفْرِها الموسوم بـ “منطقة مروي المخبر والجوهر”، وتوثق لطبيعة الينابيع الاجتماعية التي كان لها فضل السبق في سقاية جذوره ونتِّح أغصانه، إلا أنها لم تفلح في تأسيس منهج أكاديمي منبسط، يعينها في استيعاب حراك الثقافة الخلَّاق في المنطقة، لأنها حصرت نفسها في كنانة المجموعات الأثنية التي مغنطت حركة مداراتها الثقافية والاجتماعية حول المجموعة الشايقية وذلك في إطار جدلية الأصل وتوابعه، دون أن تدرك أن لكل مجموعة من تلك المجموعات كينونتها المايزة ومركزها الثابت الذي تتقاطع خطوط سيره مع المدارات الأخرى، وتتوحد في خاتمة المطاف حول مدار الثقافة الشايقية صاحب الكيل الراجح. إذاً الإطار الثقافي أوسع رحابة من الوعاء الأثني الذي يشكل مفردات التركيبة الديمغرافية في منطقة ود صليليح، والعامل حسونة، وحاج الماحي.
فلاشك أن تراث منطقة مروي الكبرى جدير بالتوثيق والاعتناء، علماً بأن منتدى التوثيق الشامل جمع بين أطباقه الأسفيرية ثلة خيرة من ذوي القدم الراسخ والباع الطويل في معرفة مكنوزات تراث مروي الماكث في الأرض بما ينفع الناس، وأذكر منهم الأخ الصديق الدكتور يسن محمد يسن، وناظم خيوط المنتدى الفنية المهندس محمد أحمد إبراهيم، والأستاذ صلاح الرشيد حمد، والأستاذ صلاح هاشم السعيد، والأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك، والأستاذة اشتياق القرير حفيدة عمنا المرحوم طه محمد أحمد، والظريف مسواك الأراك، كما كان يخاطبه الراحل الطيب صالح، الأستاذ محمد خير عوض الله، والأديبة مهيرة (شهرزاد)، وسيف الدين محمد الأمين، والمبدع أسامة حمزة، والأستاذ عثمان محمد وداعة، والمهندس علي عثمان عمر، والشاعر عبد الرحمن عبد الباقي حسين (الحسينابي)، والمهندس المبدع عادل حسن علي عسوم، والأديب أسامة معاوية الطيب، والأستاذ عبد الرحمن مامان، وأستاذنا الكبير محي الدين مالك محي الدين، والقائمة تطول من أمثال هؤلاء، فمعذرة لكل الذين سقطت أسماؤهم سهواً. فذكر الأسماء جاء عفو الخاطر، ولا يقوم على إحصاء دقيق في المنتدى لتقويم عطاء المبدعين الدافق من أبناء منطقة مروى الكبرى.
الأخ توفيق وضيوفه الكرام، لكم صادق تحيتي ومودتي. وما ذكرته هو مجرد خواطر طافت بذاكرتي في يوم ماطر بغابات الملايو التي غني أستاذنا الكابلي لجمالها، ومعطرٍ بنفحات شهر رمضان المبارك، أعاده الله عليكم وعلينا بالخير والبركات. حقاً أردتُ من هذه الكلمة أن تكون رسالةً مفتوحةً للجميع، لهم الحق أن يعلِّقوا عليها كما شاءوا ومتى شاءوا، حتى تكون رسالة ممشوقة القوام، شاحذة للهمم السامقة، ومثمِّنة لعطاء المواظبين على رفد المنتدى بإبداعاتهم الخوالد، وحتماً أنهم عند الصبح سيحمدون السُّرى، ولسان حالهم يقول للأخ توفيق: “أنت من نفر عمروا حيثما قطنوا * يذكر المجد حيثما ذكروا وهو يعتز حين يقترن.” ونيابة عن المشرف العام ومساعديه الأفاضل يطيب لي أن أذكركم بأن منتدى التوثيق الشامل ليس ملكاً للأخ توفيق، بل هو ملك الجميع، فعليكم أن تعضوا عليه بالنواجذ، وتحافظوا على العطاء المبثوث بين ثناياه.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.