صفاء وكدر – قصة قصيرة

أول الكلام

هذه  القصة قصة حقيقية بكل ما تحمل هذه الصفة من معانٍ، وواقعية بكل المعاني المتفرعة عن هذه الكلمة. وقد سُجلت على هذه الأوراق بالوجه نفسه الذي سجلت به على أرض الواقع، وإن كان هناك اختلاف في شىء  فربما يكون في مقياس الرسم، لأن أحداث القصة على الطبيعة، أكبر بكثير من أن تسعها هذه الصفحات.

فالكاتب، لم يجد في نفسه متسعاً من خيال أو إبداع أو تزيين يضفيه عليها، وإنما قام بدور المحقق الذي يسجل في محضره كل ما يقال  ولا يترك شيئاً مما يقال  إلا ما لا يخدم القضية في شىء. لذلك فإن مافي هذه القصة من أحداث وأخبار  وتفاصيل، كانت كلها مما أوجده الواقع  على مسرح القصة.

وبالطبع، فهذا لا يعني أن العنصر الخيالي اللازم للسرد القصصي غير حادث فيها، ولكن المقصود هو أن القصة بما اشتملت عليه من أحداث وأخبار  وتفاصيل، كانت في جوهرها واقعاً يعلو الخيال ويفوق التزويق.

والكاتب بعد لا ينكر أنه استعار بعض الأسماء، وأخرج بعض الكلام عن مقتضي الظاهر، إلا إنه إخراج  لم يزد على كونه تصرفاً من خيال الواقع، لامن واقع الخيال. ولذلك فالكاتب يقدم العذر إن شاب القصةَ جمودٌ أو إثارة لأن ذلك سيكون جموداً أو إثارة في الواقع الذي دارت حوله الأحداث  لا في الخيال الذي يدور حول القصة.. وللقارئ  بعد ذلك أن يرى بنفسه كيف أن في واقعها الخيالي غناء عن إحاطتها بشئ من الخيال..

وختاماً، فالقصة مهداةٌ لمن يعيشون الحياة على واقعها ؛ فيحملون الخير على محمله، والشر على محمله، فهي مزيج من دوافع الغيرة، وغيرة الدوافع، ومليئة بالتناقضات، ومفعمة بالأسي، ومشحونة بالأمل، ومتخمة بالذكريات .. لم ينل منها طامع شيئاً فوق ما قسم له، ولم يفقد منهـا متهـاون شيئـاً ممــا قسم له. إنها الحيــاة بواقعها وتناقضاتها، كدر وصفاء.. غدر ووفاء.. خوف ورجاء.. موت ونماء..

     (١)

أشعل أحمد سيجارة كان قد أقسم ألا يدخن بعدها، ثم أدار مقعده قليلاً كي يعتدل في جلسته، وجذب إلى أعماقه نفساً طويلاً متظاهراً بأنه هو ذلك الرجل الذي لا يعرف الحب، ولكنه يحب أن يسمع أخبار العشاق».

قال لزميلته هدى بعد أن سخر ذكاءه المعهود  في مخادعتها: كيف حال  الآنسة صفاء؟ فقد طال العهد بيني وبينها  ولم أرها ولم أسمع عنها شيئاً.

قالت له هدى بسذاجة عابرة، وهو يستمع بفضول  وتلهف: إن صفاء، سعيدة هـذه الأيام، ويبدو أنها عثرت على الكنز!

أحمد: أي كنز ؟ أتقصدين أنها مقدمة على نيل شهادتها الجامعية ؟.

هدى: يالك من طيب مسكين! ألم تسمع بالقصة التي سمعت بها الطيور في السماء؟

أحمد: أي قصة تلك، التي سمعت بها، الطيور في السماء ؟

هدى: دعك الآن منها إن لم تكن قد سمعت بها.. فهي قصة مثيرة وأطرافها كثيرة، إلا أن صفاء لا تحب لها أن تتناقل بين الألسن، وبحسب كل إمرئ ما سمع!

أحمد: يبدو أنني أغبي مما أتصور، إن لم تكوني أنت أكثر غموضاً مما يجب. أخبريني فإن صبري لا يقوي على الإحتمال!.

هدى: قلت لك إن صفاء أمرتني ألا أروي هذه القصة لأحد، ولكن لما لك من وقع في نفسي، فأسأروي لك جزءاً  من تفاصيلها، ويمكنك مقابلتها بنفسك فربما فتحت لك قلبها.. ولكن أسالك بالله ألا تروي شيئاً مما أقول لك لأحد! 

صمتت هدى قليلاً، وكأنها ترتب أفكاراً فَرَّقها عليها ذكاء أحمد وفضوله، ثم قالت:  تخلت صفاء عن حبيبها خالد وذلك بعد أن نجحت أنا في مهمتي بإقناعها بالزواج من ابن عمي سالم، الذي ما إن رآها في عقد قران شقيقته الصغري حتى طار طائره، وغار غزاله.. وبدأ يستعد لمعركة أبطالها عشرة أو يزيدون!

هنا وجم أحمد حيناً، وخشي أن يكون ضمن هؤلاء العشرة  رغم تستره وذكائه الحاد.. ولكنه لم ينبس بحرف.

قالت له هدى، بعد أن رأت في عينيه علامات استفهام كثيرة: وبدأت أستعد أنا أيضاً لتضميد الجرحي والمصابين.  فالمعركةكبيرة وخطيرة، ولا سيما أن سالماً  ابن عمي، وصفاء صديقتي!

تظاهر أحمد بالإعجاب الشديد لما يسمع، وبدأ يتحدث لهدى عن إعجابه بصدقها، وأمانتها، واهتمامها به ؛كي يزيد من حماسها ؛ ليتلقي المزيد من الأخبار.. فصفاء ليست فتاة عادية في نظره، وإنما هي محور معركة أبطالها تسعة، هو عاشرهم!

قال أحمد، مبدياً  بسًمة لطيفة كعادته: ولكن من أين أتي سالم هذا ؟ لا شك أنه جيد الحظ.

كان سالم قد حضر لتوه من إحدي الدول الخليجية غانماً وكأنه يردد.. جاءكم سالم غانماً سالماً  بعد ما كان ما كان من سالم. حضر في أجازته السنوية وأفكاركثيرة تجول في خاطره، فقد كان يحلم بالزواج من فتاة جميلة ومثقفة، ولا بد أن تكون قد أكملت دراستها الجامعية. ذلك الحلم الذي لم يتحقق إلىه هو في نفسه!.

كانت هذه الأمور تشغل تفكير هدى، وكانت لا تدري أتبوح بهذه المعلومات لأحمد، أم تخفي منها شيئاً وتحافظ على ربط الجزئيات باستخدام الأسلوب الخيالي المعروف في ربط الأحداث.. وبدأ القلق يساورها والخوف يتنازعها.. فأحمد الذكي لا بد أن يوقع بها، ويأخذ كل ما يتبقي من المعلومات، وبعض هذه المعلومات يشعل النار في كل عيدانها التي جمعتها!

وقبل أن يستكمل الشرود دورته كا ن أحمد قد عاد يحمل كوبين من الشاي، وجلس فجأه ليقطع عليها حبل تفكيرها..

أحضرت لك كوباً من اللبن لأن قلبك صافٍ مثله، وأحضرت لنفسي كوباً من الشاي الأحمر وأخشي ألا تدفعك الترجمة إلى الانجليزية فتقولي إن قلبي أسود مثله!

ضحكت هدى وقالت بلثغتها التي لا تفارق شفتيها كثيراً   أثـود!؟  ليت قلبي أبيض كقلبك وليتني أوتيت شيئاً من ذكائك وحكمتك وأدبك الجم.

تدخل أحمد مقاطعاً وكأن  الذي تقوله هدى لا يعجبه وإن كان قد أراحه في قرارة نفسه كثيراً وأدخل على قلبه سروراً عميقاً.. وقال: إن صفاء ابنة عمي، وسالم ابن عمك، ولذلك لا بد أن أعرف كل شئ عن حياة ابنة عمي كما علمت كل شئ عن ابن عمك.. أليس كذلك؟

استغل أحمد صمت هدى، وحيرتها وترددها، وطفق يضفي عليها  ثناءً وإطراءً حتى اندفعت قائلة: 

إن سالماً اخبرني برغبته في الزواج من صفاء، لما رأي من عمق الصداقة التي بيني وبينها، وعندما نقلت الخبر لصفاء لم أر منها استجابة في بادئ الأمر ولكنها لم تقطع الطريق أمام فضولي، وكثرة الحاحي، ولم يمض وقت طويل حتى تم اللقاء الثاني، بين سالم وصفاء، بعد أن مهدت له تمهيداً، وأعددت له إعداداً..

وفي اليوم التالي للقائنا، عادت صفاء لتقول لي إنها أحبت سالماً منذ أن رأته أول مرة، ولكن هناك أمراً بات يشغلها، ويهدد صفاءها وهدوءها ودعتها.

تدخل أحمد وكأنه لم يشعر بنفسه.. قائلاً: وماهو ذلك الأمر؟ تظاهرت هدى بعدم الإنتباه لسؤال أحمد وقالت: إعترفت لي صفاء بحقيقة حبها لسالم الذي شغفها بجماله ومروءته التي تبدو من هيئته، فهي كانت دائماً تحب الجمال، وليس هذا غريباً ؛ فصفاء جميلة جمالاً لا مراء فيه.

وصمتت هدى قليلاً عندما ذكرت الجمال، فلعل الغيرة اعتملت في صدرها وتنهدت قليلاً ثم استطردت قائلة:

وقد كانت صفاء تبحث عن رجل جميل مثلها، ولكن لا يكون جماله على حساب الثروة التي تحلم بها، ورغد العيش! ولما كان سالم قد عاد من غربته يحمل المال الكثير فقد إجتمع لها فيـه »الجري والطيران«..  مما جعل  مهمتي في الأمر مهمة يسيرة… ولم يمض وقت طويل حتى وقعت صفاء في مصيدته جثة لا حراك فيها.

لم يَنْسَ أحمد سؤاله الذي تجاهلته هدى فقال: ولكن  لم تذكري  الأمر الذي يشغل صفاء!

إبتسمت  هدى واعتدلت في جلستها، وكأن يديها تحركتا دون قصد منها  لتعيدا خمارها الذي إنزاح قليلاً..  وقالت: خالد.

تظاهر أحمد بالغباء، وكأنه لم يسمع من قبل بخالد، وقال: خالد ؟ ومن يكون خالد هذا ؟

ضحكت هدى وقالت إنه صديقك الذي لا يفارقك بالليل  إلا ليلتقيك بالنهار، ولا أصدق أنه قد أخفي عليك حباً إمتدَّ لأكثر من عامين! أنا اعترف بأنه كان حباً غير معلن، ولكن ليس للدرجة التي يخفي عليك أنت!

أحمد: إنني أكاد أفقد عقلي! إنك تحدثينني عن  أشياء لا أعرفها! قولي  لي بربك ما الذي كان بين خالد وصفاء، ودعك الآن من سالم وصفاء .. فهذا أمر أدعو الله أن يوفقهما فيه، ولكن أمر خالد حيَّرني! صديقي الأول أكون آخر من يعلم بقصته التي إمتدت لعامين إثنين..  هذا أمر غريب حقاً!

أحست هدى بشئ من الخجل، وكادت تعتذر لأحمد عن تدخلها في أمر لا يهمها ولكنها خشيت ذكاء أحمد..  وقالت له:  إن ما كان بين خالد وصفاء، لا وجود له الآن، وسأطيل عليك الحديث إن توغلنا فيه، وخير لي ولك ان نأخذ الأمر على أنه علاقة نبيلة، لم يشأ الله لها تقدماً لأكثر من عامين وكفي.

أيقن أحمد أن هدى لا تود الحديث عن أمر خالد، وأن لديها الكثير عن سالم، وأدرك في نفسه أن خالداً لا يمثل شيئاً إن كان  أمره قد إنتهي بالفعل ولذلك آثر أن يستدرج هدى إلى ما تهواه هي ويرهبه هو، وهو أمر سالم وصفاء.

٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

مضت فترة صمت طويلة، وكأن كلاً منهما لا يحس بوجود الآخر. فقد إنصرفت هدى إلى التفكير في خالد الذي نجحت في إزاحته عن طريق صفاء وخلا لها الجو لتلقي عليه بشباكها.. وقد حاولت طيلة فترة حبه لصفاء برغم صداقتها الخاصة لها أن توقع بينهما ؛ لتظفر هي بخالد وتخرجه من براثن الصفاء ولم تستطع لذلك حيلة أو صبراً.

أما أحمد فقد تداعت عليه الأنباء من كل صوب، حتى إنه لم يستطع  أن يجمع أفكاره، أو يهييء لخياله الخصب فرصة لإلتقاط الأخبار بطريقة منتظمه. وبدأ يفكر تفكيراً ثلاثياً: في صفاء التي ما إن يراها حتى يقشعر بدنه وترتعد فرائصه! وفي سالم هذا الذي دخل من النافذة وهو يرقب الباب! ثم في خالد المسكين الذي سينقل إلىه الخبر خالياً من أدوات التوكيد!

وقد أيقن أن صفاء لم تكن قد أخبرته حتى هذه اللحظه عن نهاية حبها له كما علم من هدى.. إنه صديقه الأول وأمره يهمه كثيراً، ولكن أمر صفاء كان أكثر أهمية!  هل يترك ابنة عمه الآن لطارق جديد ؟

ليت هدى لم تخبره عن سالم وصفاء! ليتها اكتفت بخبر خالد الذي أزيح له عن الطريق الذي يحلم به منذ سنوات.. وقد ملأت له الأرض زهوراً وعطوراً! فصفاء من ذوات القربي وإن كانت ليست ابنة عمه كما يدعي، وإنما كان نسبها به بعيداً بعداً لا يكاد يصل بين الآباء، إلا من الباب الذي يصل به بين الأجداد! ولكنها على كل حال ابنة عمه، وقد أصبح حبه لها الآن أكثر من أي وقت مضي، ودارت  في خلده ذكريات رائعة وأحداث مثيرة متفرقة وحَّدها له نسيج خياله، وألف بين جزئياتها عقله الباطن، فاستمتع حيناً بشريط حالم من الأحلام والذكريات والآمال. وفجأة إلتقط أحد الطلاب كوبي الشاي الذين كانا فارغين أمامهما، بعد أن استأذنهما.. فأعادهما  مرة أخري إلى دورة الحياة، ووجدا نفسيهما وقد جلسا بين أعداد كبيرة من الطلاب في »كافتيريا النشاط « فابتسم أحمد وقال: إن ما يشغلني هو ما كنت  تروينه منذ حين من أخبار مثيرة، فما الذي كان يشغلك أنت ؟

لم تتردد هدى في أن تقول له: يشغلني أمر سالم وصفاء. إنني اتمني لهما الخير والسعادة .. وكل أنثي تتمني لصديقتها ذلك  ويكون الأمر أكبر إن كان العريس من ذوي القربي كسالم! ضحك أحمد وقال وتكون السعادة أكبر إن كان العريس هو نفسه ابن العم مثلي!. ابتسمت هدى ولم يخالجها شك في أن أحمد سيكون الخطر الأول على سالم لأنه يحب صفاء، وكان يخشي خالداً.

نظرت هدى إلى ساعتها فكانت قد أشارت إلى الحادية عشرة ليلاً، إلاّ من بضع دقائق فاستأذنت زميلها أحمد الذي لم يشعر بالوقت وقامت تستعد للدخول إلى غرفتها حيث أن وقت السماح بالحركة الليلية للطالبات قد إنتهي، أو كاد. وانصرفا بعد أن ودعها أحمد على أمل اللقاء في اليوم التالي لمواصلة الحديث.

(٢)

عاد أحمد إلى مقر عمله الليلي بمستشفي الخرطوم التعلىمي  فهو يعمل طبيباً عاماً في قسم الحوادث، ولكنه لم يقم في تلك الليلة بأي عمل داخل المستشفي بل إكتفى بالاستلقاء على أحد  أسرة الإستراحة المعدة للأطباء.. ولم يزل يفكر فيما سمع من أخبار هامة حتى أعلن الصبح قدومه للمستشفي، عندها أخذته نومة قصيرة مليئة بالأحلام  المزعجة والكوابيس، لم يفق منها إلا على أصوات الأطباء وهم يتبادلون الصيحات لتناول الإفطار.

هب أحمد من نومه مستشعراً نشاطآ وهمياً، هيأ نفسه عليه  وبدأ يستعد للخروج للجامعة حيث أصبح من الضروري في ذلك الصباح أن يعمل على مقابلة صفاء ليري إنطباعات ذلك الأمر الجديد على وجهها، وليتأكد بنفسه إن كان من الممكن التحدث إليها بصراحة ووضوح عن حبه لها، ورغبته في الزواج منها.. وبدأت خيوط اللقاء تتعقد في دواخله وقد استحضر قول أبي الطيب ليبدأ به اللقاء المرتقب..

            مالي اكتم حباً قد بري جسدي     وتدعي حب سيف الدولة الأمم

فهو صاحب مقال  لكل مقام.. وبدأ يفكر إن كان من الممكن عروضياً استبدال سيف الدولة بصفاء ليكون المقال أبلغ تأثيراً على صفاء وقد صمم على فعل ذلك رغم إمتناع العروض!

وقال أحمد  في نفسه: إن صفاء فتاة ذكية، ولا أعتقد أنها ستوافق على الزواج من سالم ولكن يبدو أن استجابتها لهدى كانت رد فعل منطقي لجعله بديلاً لخالد الذي يبدو أنها تخلت عنه تماماً.. إذن سأكون أنا فارس أحلامها الجديد! فأنا طبيب وأديب ومثقف، والمال لا يعني شيئاً أمام هذه القيم  والأخلاق التي أتمتع بها لدي صفاء. وصفاء ليست ممن يغر بطيب العيش ورغده إذ ليس  بالمال وحده يحيا الإنسان! وهي أيضا ذات أدب وثقافة عالية، وقد كانت في العام الماضي مشرفة على جمعية الكلية الأدبية.. لذلك فهدى ساذجة ولا تعلم الكثير عن نوايا صفاء.. ولا بد لي من مقابلة صفاء لمعرفة ما يدور في خلدها.

تقدم  أحمد من مركز تجمع الطلاب بالجامعة المعروف بالنشاط، وبدأ يحملق في القادمين والعائدين بل والقادمات والعائدات  إن كانت صفاء بينهن فهي ذات ملامح واضحة لا تلتبس عليه بين سائر النساء، ولكنه لم يرها وقبل أن يقرر الذهاب لكلية الإقتصاد حيث اعتادت صفاء قضاء النهار، حتى شاهد هدى بين مجموعة من الطالبات وقد إتجهن إلىه لمصافحته.

جلس الجميع حول مائدة صغيرة بالنشاط، وبدأ الحديث حول بعض الأحوال الجامعية، والأوضاع غير المستقرة، وبعد قليل من الوقت غادرت الطالبات إ لي سكنهن إلا هدى التي اعتدلت في جلستها إلى جانبه وسرعان ما بدءا ما انقطع من حديث الأمس.

وقبل أن يمضيا كثيراً في حديثهما الذي انصب هذا اليوم حول سالم حتى رأيا صفاء قادمة صوبهما تحمل حقيبتها البيضاء ذات الورود  الحمراء المائلة إلى الخضرة قليلاً.. جاءت تمشي بغير اكتراث يضايقها ثوبها الذي لا تجيد إرتداءه وكثيراً ما ينزلق على أكتافها فتسرع إلى إعادته وقد كانت مثالاً جيداً للفتاة الجامعية المحتشمه ذات الحياء الجم.. كان وجهها الجميل شاحباً ولونها الأصفر مائلاً  إلى الاحمرار، وكانت ساقاها الرقيقتان تميلان بها ذات اليمين وذات الشمال، وكأن الرياح تذروها احترازاً.. وكانت عيناها الساحرتان مغمضتين أو تكادان ؛ لأنها لم تنعم في ليلتها السابقة بنومة هانئة. وكانت حيري فيما ستقدم عليه  من تصرفات.. فقد أحبت سالما كما قد أحبت خالداً قبله، وركنت إلى سالم كما قد ركنت قبله إلى خالد. ومثلما قد أحبت قبلهما الصادق وعلياً.. إلا أن الأمر هنا ليس كسابقه، فصلتها بالصادق وعلى لم تكن عميقة متينة كصلتها بخالد، وإنما كانت مجرد تجارب قصيرة سرعان ما إنهارت، ولكنها على كل حال كانت علاقات حقيقية نشأت تحت ظل الوعود الصادقة التي لا تعرف التلفيق.

إذن فأمر خالد مختلف تماماً.. خالد الذي فتح قلبه لها  وفتحت قلبها له لأكثر من عامين كان يعرف أسلوبها تماماً.. فلذلك كان من أصعب الأمور استخدام الحيلة في إقناعه بالتخلى عن وعدها معه..

ماذا تقول له ؟  هل تقول له إنها كانت لا تحبه أصلاً، ولكنها صبرت عليه حولين كاملين إشباعاً لمشاعره وقد حان الفطام؟ لا تستطيع أن تقول مثل  هذا الكلام لأن النبل والطهر والعفاف، الذي اتسمت به العلاقة التي ربطت بينهما تحول دون هذه الحجة الواهية ولا سيما أن صفاء تدرك جيداً ما كانت تكتبه لخالد في خطابات تقوم بتسليمها إلىه يداً بيد، لأنها كانت تستحى من مخاطبته المباشرة وكانت لا تستطيع أن تعبر عن نفسها، وما تكنه لخالد من حب وإحترام، إلا على الصفحات حيث تشتد عليها الوحدة والوحشة بعد إنتصاف الليل، وبعد أن ينام خالد، والناس أجمعون!

إذن ماذا تقول له.. أتقول إنها كانت تحبه ولكنها كانت في الوقت نفسه تحب سالماً ؟ وقد بدأ الآن ميزان الحب يميل ثقيلاً بسالم خفيفاً بخالد ؟ لا تستطيع الإفصاح بهذا.. فهي تعرف أن نظرية خالد في الحب كانت تقوم على مبدأ التوازن العام، وأن أي تغيير في درجة حب أحد الطرفين لا بد أن تتبعه  تغييرات في درجات الحب عند الطرف الآخر، تعود بالعلاقة في آخر الأمر إلى الإتزان مرة أخري، ولكن بشرط أن يكون الحب المتبادل صادقاً وحقيقياً!

إذن فمن أين يأتي سالم، في هذا الرسم البياني، الذي رسمه خالد لصفاء قبل عامين ؟. وكيف تقول مثل هذا، وخالد يعرف، أو سيعرف أن سالماً لم يكن مدوناً في ذاكرة صفاء، إلا منذ عهد قريب ؟.

ولكن كيف ؟ وقد ارتبطت بسالم ووعدته بالزواج! وماذا تفعل؟ هل تخبر سالماً بأمر خالد وتترك الأمور للظروف، أم تخبر خالداً بأمر سالم، وتريح بذلك أعصابها وتفكيرها ولا سيما أن الإمتحانات قد شارفت، وأنها أصبحت تقرأ بلا فهم بعد ان كانت تفهم بلا قراءة!

فالأمر لا شك شائك وعسير! والهموم  والمخاوف من المستقبل والمتاعب الناتجة من التفكير الحاد كانت سبباً في شحوب لونها وهروبها من الإنفراد في غرفتها أو قاعات الدرس وقد أصبحت لا تعرف الاستقرار، ولا الهدوء وإنما جعلت من طريق الجامعة الموصل بين سكن الطالبات وقاعات المحاضرات وسيلة مؤقتة للتخلص من التفكير القاتل في سالم أو خالد أوكليهما!.

تقدمت صفاء إلى حيث يجلس أحمد وهدى وحاولت في هذه اللحظة أن تبدي كثيراً من الإرتياح النفسي لتخفي كثيرا من القلق الذي يساورها.. فهي تعرف ذكاء أحمد المتقد وصلته العميقة بخالد.. فجلست إلى جانب هدى حين قفز أحمد كالأرنب ليأتي  بكوب العصير!

إنتهزت صفاء هذه السانحة وقالت لهدى: أخشي أن يكون أحمد قد علم شيئاً عن أمر سالم أو خالد. فقاطعتها هدى مرتبكة.  لا تخشى شيئاً.. فهذا أمر تعاهدنا على كتمانه ولن يعلمه أحد إلا إذا أفشيته أنت بنفسك أو نقلت الخبر إلى خالد فأفشاه.

دخل السرور إلى قلب صفاء.. فهي تثق ثقة مطلقة في صديقتها هدى وصدقها.. وجاء أحمد يمشي على استحياء، وقلبه يخفق من شدة الخوف: ماذا سيقول لصفاء وكيف سيبدأ معها الحديث وكيف سيحتال على هدى لتغادر المكان وتفسح لهما الفرصة للحديث..

وضع أحمد كوب العصير أمام صفاء قائلاً لها:

                   من قبل عيني  قد رأتك خواطري    طيفاً تمثـله لـى الاشـواق

إبتسمت صفاء إبتسامة لطيفة لهذا المدخل الجميل للحديث  فهي تعرف أسلوب أحمد المعتاد في المدح والثناء فقالت:

ليتني كنت شاعرة لأرد عليك بما تستحق، ولكنني دائماً  أقف عاجزة أمام أدبك وذوقك وفنونك.

وقبل أن يسارع أحمد بالرد على صفاء تقدمت مجموعة من الطلبة والطالبات ممن يعرفون أحمد وصفاء وهدى، واتسعت بهم الدائرة فبدأ الحديث يأخذ شكله العام عن أخبار السياسة في السودان، وسوء الأحوال العامة في الجامعة وتردى الخدمات، ولكن هذه الأمور لم تكن لتهم أحمدكثيراً ولكنها على كل حال كانت سبباً في قطع حديثه الذي جاء من أجله مع صفاء، واستمرت الجلسة حتى أشارت الساعة إلى الواحدة بعد الظهر حيث قام الجميع وافترقوا من غير أن يعلنوا موعداً محدداً.

(٣)

جلست صفاء في قاعة الدرس وإلى جانبها جلس سالم الذي ملأه الزهو والكبر إذ أنه ولأول مرة يجلس في قاعة المحاضرات وفي ذهنه أنها مكان  مخصوص  للنوابغ من الطلاب.. وتمني لو أنه كان زميلاً  لصفاء ليبادلها حديث العشق في كل حين وليتجاذبا أطراف الحديث كلما عفت القاعة.

وقال لها.. وهو فخور بها: ليت أنني تلميذ صغير أتعلم على يديك الناعمتين حروف الإنجليزية والأبجدية العربية لأقول نعم المعلم

فقاطعته صفاء بتواضع وأدب جم، لا.. بل أنا التي أتمني دائما أن أكون تلميذتك المطيعة أتلقي على يديك علوم الأدب والفلسفة.. وهنا تذكرت أنها كانت تقول نفس الكلام لخالد وربما قالت مثله  للصادق  قبله وعلى…. فاقشعر بدنها وودت لو أنها لم تقل له هو أيضاً.. فتلعثمت وقالت له بكلام لا يشبه بلاغتها وروعة عباراتها:

أنت كل شىء في حياتي ؛ لذا فلا يمكن أن أعلمك، وانت الأصل!

إبتسم سالم لفرط حبه لها وثقته من صدقها وقال: شكراً لك كثيراً على هذا الثناء الجميل.. وبعد صمت لم يدم طويلاً.. تردد سالم قليلاً  وقرر أن يسأل صفاء سؤالاً لم يستطع أن يسألها عنه من قبل رغم تعدد لقاءاتهما، وتبادل الحديث حول  الكثير من الموضوعات فقال:

أريد  أن أسالك سؤالاً  عفوياً، لا أقصد منه شيئاً، فهل تأذنين ؟

قالت صفاء بسرعة وذكاء، وكأنها لم تعط نفسها فرصة للتفكير: أنت الذي تأذن لنفسك.. قل ما  شئت فكل حرف منك يسعدني كثيراً.. قال سالم، وكاد يتصبب عرقاً.. ولعله ندم على عدم إختيار الوقت المناسب: ألم تحاولي يا صفاء  أن » ترتبطى « يوما بشخص آخر قبل أن تجمع بنا الأيام ؟

قالت صفاء بسرعة لم يتوقعها: لا.. بل أتاني هواك قبل أن أعرف الهوي فصادف قلبي خالياً فتمكنا!!

أعجب سالم ببلاغة صفاء وحضور بديهتها وأيقن أن صفاء تحبه حباً جماً رغم قصر المدة التي جمعت بينهما وقال:

ولكن هل ستغضبين إن قلت لك إنني كنت على موعد بالزواج من فتاة أخري قبل أن أعرفك، وعشت معها تجربة حب طويلة  ووصل الأمر حد الخطوبة ثم الفسخ ؟

قالت صفاء.. خيراً فعلت، فأنا بذا الخبر جد سعيدة  لأنك  ستكون إخترتني عن تجربة وليس خيراً  لنا على كل حال أن يكون كلانا حديث عهد بتجربة الحب.. ولا سيما أنك رجل، والرجل  لا بد له أن يخوض معارك كثيرة لتستفيد منه المرأه..

وقبل أن يجيب سالم، أسرعت صفاء في تغيير الموضوع قائلة: اما أنا فأريد أن أسألك عما يدور الآن في فلك تفكيرك المستقبلى . فأنا لا أؤمن بالمادة كثيراً، ولا الشكليات ولكني لا أنكر في الوقت نفسه أهمية المال في الظروف الحالية إذ أن الحياة أضحت صعبة والمستقبل مريراً..

سر سالم كثيراً للحديث في هذا المجال ومضي يعدد لصفاء إنجازاته التي حققها بعد سفره للخارج ، وقد كانت إنجازات كبيرة كادت تلبي  طموحات صفاء وأحلامها. وقبل أن تعلق على حديث سالم الذي أدخل على قلبها سروراً عظيماً، دخلت عليهما هدى تحمل خبراً تحرك على أثره سالم بعد أن ودع صفاء، ووعدها على اللقاء في صالة الاستقبال من عصر اليوم التالي.

وجلست هدى إلى اليمين من صفاء وكانت حريصة ألا تذكر لها شيئا عن حديثها مع أحمد، ولا شيئا عن مخططها لإحتواء خالد.. وبدأت حديثها  كعادتها في تلك الأيام عن سالم قائلة: إن سالماً قد ذهب لإمر مهم ولكنه مكره عليه ؛ لإنه أصبح لا يستطيع أن يبتعد عنك كثيراً..

كانت صفاء واجمة تفكر في أمر خالد وكيف تصارحه ؟ وهل تجرؤ على قول الحقيقة أم تلفق أمراً  تصوره له.. أنه يحبها ويخلص لها في حبه، وهي  أيضا تحبه ولكنها الآن لا تخلص له في حبها.. وأن سالماً استطاع أن يؤثركثيراً  على حبها القوي لخالد بعد أن أحست أن المستقبل يجب أن ينظر اليه بعيداً عن العواطف المجردة.  ولكن كيف سيستقبل خالد الخبر ؟  لا شك أنه سيموت!!

ولكن هدى لم تترك الأفكار تعصف بصفاء فتدخلت قائلة: فيم تفكرين؟  لا شك في أمر خالد! أ ليس هذا الأمر قد حسم منذ أن تم الإتفاق بينك وبين سالم ؟ أ ليس في سالم وظرفه وحسن بزته وثروته، ما يكون كفيلاً بأن ينسيك خالداً ؟. دعك من كل هذا، وسأخبرك الآن بخبر سعيد، وهو أن سالماً يدعوك للسفر معنا لمشاركة أخت سالم الصغيرة فرحتها بالزواج في قريتنا.. وهي فرصة طيبة لك لتشاهدى أهل سالم وتتعرفيهم، وتدرسي بنفسك سلوكهم وأخلاقهم وطيبتهم.. مارأيك؟

حاولت صفاء ألا تكشف لهدى  فرحتها بهذا الخبر، واكتفت بقولها: لا بأس ولكن سننظر في الأمر معاً إن شاء الله.

صمتت  هدى وصفاء قليلاً، وفي هذه الأثناء أطرقت هدى في أمر خالد وكيف أنها ستظفر به طالما أنه سيفارق صفاء ؛ لأنه سيكون في أشد الحاجه لإمرأة تقف بجانبه، ولا سيما أنها فتاة مرحة ولطيفة، وهي تعترف بأنها دميمة نسبيًا  ولكن خالداً لا يقدم الَخْلق على الُخلق، ولا يبدل الثقافة والعلم بالجمال.

وفجأّه قالت صفاء بصوت متقطع: سآوي إلى فراشي فأنا منهكة هذا المساء وسأتركك  لتقرئي قليلاً..

ثم ودعت صفاء صديقتها اللدود هدى وذهبت متثاقلة الخطي لمساكن الطالبات.. وفي الطريق قابلها خالد من غير موعد بعد أن غاب عنها لبعض الوقت، غياباً غير مقصود، ولكنه استغرق أسبوعين كاملين، فما إن رآها حتى إنشرح صدره لمشاهدتها، وكان  قد آب  لتوه من غرفتها وعرف أنها خرجت قبل وقت طويل مع شخص يدعي سالم، ولم يدر من هو سالم  وأين ذهبا، ولكنه يعلم ألا أحداً بهذا الإسم بين أقاربها، إلا أنه لم يخالجه أي شك لأنه يعرف صفاء جيداً..

قابلها خالد بقلب صادق ولكنها قابلته ببرودٍ شديدٍ لم يكن يشهده منذ  سيرتهما الأولي.. واستأذنته مستعجلة ومعتذرة بأنها مرهقة، ولكنها لم تشر كعادتها إلى موعد لقاء قريب.

وذهب خالد بعد هذا اللقاء الغريب إلى غرفة صديقه هاشم الذي لازال طالباً بالكلية وهو أحد أصدقائه المقربين الذين يروي لهم خالد كل شىء عن علاقته بصفاء، ووجد الغرفة خالية فاستلقي على رماح القلق الذي ساوره من أسلوب صفاء غير المعتاد.

ولم يأو هاشم إلى فراشه تلك الليلة ولم ينل خالد حظه من النوم حتى أُذِّن لصلاة الفجر.

إجتر خالدكل ذكرياته السابقة مع صفاء، ولم يزده ذلك إلا تمسكاً بها ولم ير في علاقته بها إلا ما يقنعه بأن برود صفاء هذا ما هو إلا سحابة عابرة من القلق والإرهاق الذي يصاحب القراءة أحياناً.

وسرعان ما تعد صفاء إلى صفائها القديم، وتمني أن تشرق الشمس ليقابلها ويتأكد بنفسه من عواطفها ومشاعرها العميقة تجاهه وما إن أشرقت الشمس حتى إرتدي خالد ثيابه وبالغ قليلاً في تحسين هيئته وحفّ أطرافاً متناثرة من شاربه الضخم، وعاد  إلى المرآة  ليطمئن  على سلامة منظره، ثم خرج إلى باب الجامعة لينتظر صفاء وهي قادمة، إذ أنه لا يستطيع في ذلك الوقت المبكر أن يدخل إلى مساكن الطالبات.

وبدأ خالد القيام بمهمته الصعبة، وهي مراقبة الطالبات وهن قادمات للدرس والتحصيل، حتى وقع ناظره على صفاء التي يعرفها من هندامها وشكل مشيتها وقبل ان تبدو له ملامح وجهها!

وفي هذا الصباح، التقته صفاء لقاءً رائعاً، واعتذرت له كثيراً، عما بدر منها بالأمس ؛ فانشرح صدره، ولم يطل عليها الوقوف بجانبه، لأنه يعلم أنها مقدمة على درسها،  فودعها وراح لتوه إلى مقر عمله الجديد، الذي كان قد عين فيه قبل يوم واحد فقط.

      (٤)

عادت صفاء من سفرها مع سالم وهدى بعد أن قضت أسبوعاً كاملاً في القرية لحضور مراسم الزواج. وكانت هذه هي المرة الأولي التي تسافر فيها، أو تتخذ قراراً  بعمل شىء ما دون أن تطلع عليه خالداً، وتعمل بموافقته.

وبعد يوم واحد من وصولها للجامعة، ذهب خالد لمقابلتها بعد أن قضي ذلك الأسبوع مشغولاً بوظيفته الجديدة، والتي أضافت إلىه أعباء كثيرة كان من الصعب معها مزوالة أنشطته الخاصة.

ذهب خالد وكله شوق لمقابلة صفاء التي أصبحت لا تحتمل لقاءه، ولاسيما بعد أن قضت أسبوعاً حالماً مع سالم وأسرته، ورأت بعينى رأسها الجهود الملموسة التي بذلها سالم في تحسين منازل أهله والثراء العريض الذي بدا على وجوه العائلة المضيفة، والصرف البذخي الذي إتَّسم به الزواج .

جاءت على غير عادتها مكرهه على اللقاء، ولكنها كانت قد قررت وهي في طريق عودتها أن تتسم بالوضوح مع خالد ليخلي سبيلها، وحتى لا يُحْدِث تزامن حضوره المحتمل لها مع سالم ضرباً من ضروب الشك في نفسيهما، وعلى الأرجح في نفس سالم.

خرجت صفاء وقلبها ينبض بالحزن لفراق خالد الذي ستودعه إلى غير رجعة، كما ينبض بالفرح الغامر بالفارس الجديد ويخفق بالألم على نهاية قصة كانت من أنبل القصص. كما يحدوها الأمل ببداية قصة ستكون حديث الزملاء والأصدقاء، وبالجرأة على ماضٍ حافلٍ، قررت إغلاق منافذه، وبالخوف على مستقبل مجهولٍ فتحت أبوابه.

خرجت صفاء بشعور ممزوج بالجرأة والخوف، وبالأمل والألم، وبالحزن والفرح، وباليأس والرجاء، فكانت صفاءً في ظاهرها  وكدراً  في باطنها. رآها خالد  تمشى الهوينا رغم نحافتها  وضعفها الشديد، فآثر أن يتقدم صوبها وصافحها وأشارت إلىه بالدخول إلى قاعة استقبال الطالبات ففعل .

ودخلت هي من الباب الأخر وعادت إلىه بعد بعد دقائق تحمل كوبين من الشاي تمهيداً  للدخول في معركة حامية تفوق كوبيهما سخونة ودخاناً.

جلس كلاهما في المكان الذي إعتاد أن يجلس فيه لأنهما كانا يحبذان دائما أن لا يراهما أحد من معارفهما، وكانا يجلسان الساعات الطوال دون أن يراهما أحد سوي بعض الطلاب يأتون أزواجاً  ويجلسون قريباً منهما دون أن يسببوا إزعاجاً  وكانا عفيفين إلى أقصي غايات العفة، لا يعرف لسانهما اعوجاجاً  ولا تعرف قلوبهما إرتباكاً.كانا رومانسيين  إلى أبعد درجات الرومانسية! ولكنهما كانا في تلك الجلسة شخصين غريبين كأن كل منهما لا يعرف الآخر بل وربما لم يكن قد رآه قبل ذلك اللقاء. بالقطع لم يكن خالد يدري كيف حدث هذا  وما سببه ؟ ولكن صفاء كانت تدري تماماً أن موعد الفراق الأخير، قد حان  أو كاد.

ومضت عدة دقائق دون أن يحدث شىء سوي  أصوات إرتشاف جرعات الشاي التي كانا يتبادلانها كل من كوبه. وأطراف مواضيع من هنا وهناك، وعلى غير ما إعتادا عليه من نقاش وحوار، مما جعل خالد يفطن سريعاً إلى أن هذا اللقاء ليس كسابقاته، وربط بين هذا السلوك الجديد لصفاء وذلك اللقاء العابر والغابر الذي إعتذرت عنه، فقال: إنني أحس بأن هناك شيئاً غير عادي يحدث الآن  إذ العادة ألا نكون كذلك. أمازلت منهكة بسبب القراءة والسهر أم أن هناك أمراً  يشغل بالك ؟

تلعثمت صفاء قليلاً ثم قالت: لا شىء. ولكنني حضرت بالأمس من سفر طويل بدأت الآن أشعر بآثاره الجانبية.

خالد: سفر طويل ؟

أدركت صفاء  أن خالداً لم يكن يعلم شيئاً عن أمر سفرها  وتمنت لو أنها لم تخبره به، ولكنها إمتلأت جرأة وقالت له: سافرت مع هدى صديقتي لأشاركها الفرحة بزواج ابنة عمها في قريتهم.

            وقبل أن يرد خالد بكلمة واحدة، تلعثمت صفاء مرة أخري  وقالت له بلغة مرتبكة، وقلب مرتعد، وحديث مضطرب، أنها تريد الحديث اليه بصراحة ووضوح ، فلما أذن لها أخبرته بأنها بدأت تحس بالفتور يدب في طريق حبهما، وأنها تفضل أن ينفصلا لئلا يحدث هذا الفتور ما من شأنه أن يظلم خالدا!!.

لم يعلق خالد ولكنه اكتفي بالموافقة على ما قالت وشكر لها وضوحها  وصراحتها، وحاول التظاهر بأنه لم يتأثر بما قالت حتى تمكن من إرتشاف ما تبقي من كوبه ثم نهض مستأذناً، ووعدها بالحضور في الأسبوع القادم لأخذ قرارها النهائي، عندما أبدت صفاء تردداً في أمرها، وقالت له إني آسفة، فأنا لا أقصد بالفتور الذي أحسسته أنني أريد قطع الصلة نهائياً، وطلبت من خالد  أن يعطيها فرصة أطول لمراجعة موقفها فربما كان الأمر مجرد إحساس مؤقت تدخل للحيلولة دون مواصلة مشروعهما: ولكن خالداً حسم هذه الفرصة وحددها بأسبوع واحد، وقام من مكانه متظاهراً بأنه أقوي مما تظن صفاء  بكثير:

٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

وحقيقة الأمر، فإن خالداً  لم يكن ليذوق حلاوة النوم طيلة ذلك الأسبوع  وكان أكثر ما يحزنه ويؤرقه، تلك الذكريات الجميلة التي سجلاها في شريط حياتهما،كما أن هذا السلوك المفاجيء الذي لم يعط للوقت أهمية كان مصدراً أساسياً في أرقه وتكدره، بل ومنبع شكوكه وهواجسه . هذا فضلاً عن شعوره النبيل الذي  تجبره الآن صفاء  لتغييره في أقل من أسبوع، وهو شعور نما في أكثر من مائة أسبوع.

وبدأت أشرطة الذكريات تدور في خلده، وتعيد إلىه كثيراً من اللقاءات القديمة، وتذكر كيف أن صفاء سعت بكل أساليبها وكل ما تملك من قوة  وذكاء أن تعيش جزءاً مهماً من حياتها إلى جانبه، حتى إذا قويت شوكتها   وحان قطافها وضعت حداً بين من تحب ومن تتزوج.

تذكر أنه كان معجباً بزميلتها آمال، تلك الفتاة الأديبة التي كانت تربط بينه وبينها علاقة أدبية عميقة، وكيف أنه كان يحترمها إحتراماً كان في حقيقة الأمر يشعل النار في قلب صفاء: حتى أن آمال كانت تتعرض دون ذنب لهجمات واسعة النطاق من قبل صفاء التي كانت تصر أن ما بين خالد وأمال لم يكن مجرد علاقه ادبيه.

وتذكر أن آمال نقلت إلىه مرة وهما في » كفتيريا العلوم « تعلق صفاء به وكيف أنها تعرضت لهجوم إعلاني مكثف من قبل صفاء، وتذكر أنها نقلت إلىه أن صفاء قد أرسلتها لتكشف لخالد حبها له، وأنها تجاهلت ذلك مراراً خوف الدخول في أمر لا يهمها.

وتذكر أنه دهش دهشاً شديداً لما سمع ؛ لأنه كان يعلم بالوعد الذي قطعته صفاء مع الصادق وقد تناقله جميع الزملاء كحديث مؤكد لا ريب في مصداقيته    وتذكر ان دهشته بلغت منتهاها حين تولت آمال نفي هذه العلاقه، وقالت له حديثاً لا يزال يذكره بلغته  تلك التي تحدثت بها آمال، إذ قالت له:

إن صفاء مظلومة.. مظلومة.. مظلومة.. وأن  الأستاذ يوسف السباعى قال في إحدي قصصه الرائعة جملة تذكرني دائماً بمن ظلموا صفاء حين ادعوا علاقتها بالصادق  ولزمت صفاء الصمت رغم مرارة الخبر يقول السباعي »كل المناقشات التي تدور في هذا  البلد، يتكلم الجميع عدا الذي يعرف الحقيقة « فانا التي تعرف الحقيقة، وأقول لك إن صفاء مظلومة، وليس لها علاقة بالصادق.. وقال الشاعر قديماً  » وما آفة الأخبار إلا رواتها «

تذكر خالد تلك المعاملة الرقيقة، والمشاعر النبيلة التي كان ينعم بها من صفاء رغم أنه لم يتعجل الإقدام على التحدث معها في أمر الزواج. وتذكر أنه أمهلها فترة طويلة تخللتها الإجازه الصيفية. وأنه تسلم منها رسالةكانت عن مواضيع هامشية افتعلتها صفاء لتكون سبباً مقنعاً لمراسلته، ولكنه لم يردها خوف أن تخطيء صفاء فهم ما يدور في خلده، او تفتعل فهماً يعين على ذلك الخطأ.

وتذكر أنه حينما عاد من الإجازه قد تأخر كثيراً في الإبلاغ عن مشاعره الخاصة لصفاء، فلم يزده الصبر إلا ثقة من بعد ثقة، ولم يزده الجفاء الا قرباً وتعلقاً وولهاً من جانب صفاء، فكانت لا تكاد تراه حتى تذوب وكأنها لوح من الثلج القي فوق جمر ملتهب. وكان وجهها الصغير يزداد حمرة وتوهجاً، ولكن ذكاءها كان أقوي من مشاعرها، وصبرها كان أبلغ من عواطفها. تذكر أنه جلس يوماً بجانبها بعد أن قرر الدخول معها في حديث يتعلق بمشاعرها، ومشاعره التي بدأت تنمو تجاهها، وقد بدأ حديثه ذاك بأسئلة كانت تمثل شعوره  بالحياة بكل تناقضاتها، وكان أميناً مع نفسه، صادقاً معها، فجاءت تلك الأسئلة دليلاً على ثقته بنفسه وإحترامه للأخرين، ولكنها استطاعت بدهاء » السياسيين « ومكرهم ان تجيب على تلك الأسئلة بما يقرب بينه وبينها، وتذكر كيف أنها أبدت دهشتها لما تتناقله الألسنة عن صلات مزعومة بينها وبين الصادق  تارة  وبينها وبين على تارة أخري، وقالت له إنها أصبحت لا تثق فيمن حولها من الزملاء والزميلات، وبذلك أَمْلتْ عليه الا يبوح لأحد بهذه العلاقة لكي لا تشتبه بتلك العلاقتين المزعومتين.

تأمل خالد تلك الصلة التي ربطته بصفاء، وكيف أنه لم يسمع  منها الا ما  يوحي بالحب، ولم ير الا ما يشير إلى الحب، وذكر تلك الرسائل التي  كانت تخطها، وتسلمها له يداً بيد، وكيف كانت تفكر في نفسها ومستقبلها فنزلت على خده  الحزين دمعةٌ لو قيست طولاً  لكانت أطول من تلك المشاوير التي مشاها في سبيلها جيئة وذهاباً! وما أن استعرض في ذاكرته تلك الخطابات  التي كان يحتفظ بها في حقيبته حتى نهض مسرعاً ليعيد قراءتها واحدة تلو الأخري! ولينظر إلى تلك الصورة الهادئة التي كانت قد أهدتها إلىه ؛ ليري كيف كان يري الصدق في نظراتها، والإخلاص في هندامها، والأمانة في إطارها! وما ان وقع ناظره على اولي الرسائل، حتى وجد على ظرفها الناصع البياض جملة واحدة بسيطة في الفاظها، عميقه في معانيها.. على غير ما اعتاد أن يقرأ على أظرف الرسائل. وكانت مكتوبة باهتمام بالغ، وخط  جميل يشير إلى جهد كبير  بذل في تحسينه ؛ تقول “» ليس هناك عنوان  وليس هناك داع لساع البريد، فالخطاب يعرف طريقه! «.

فض خالد بسرعة فائقه ظرف الرسالة حتى مزق جزءاً من محتواها دون قصد، وقرأ بحسرة شديدة رسالتها الأولي إلىه..

سيدي ..

عفواً.. إن كان للتاريخ أهمية في هذه اللحظة بالذات فذلك يعني ان كل لحظات حياتي منذ لقائنا الأول تاريخ، وتواريخ..

وأقدم إعتذاري لعدم الكتابة إلىك في السابق، ومنذ أن تم الوضوح بيننا، رغم رغبتي الشديدة ؛ وذلك لأنني عندما أريد الكتابة  أسمع صوت حروفي عالياً، وأنا أخاف عليها حتى من همسي بها للسطور، وسرعان ما يتراجع القلم  لغطائه  مسلماً بالهزيمة!

سيدي…

غريب أن يكون هناك أناس مثلنا يلتقون كل يوم تقريباً ولكن لا يلتقون أبدأ إلا كما يريد الآخرون!

مر خالد مروراً عابراً  على بعض السطور ثم وقف فجأة على قولها..

كثـيراً  فكـرت في الكتـابة إلىك كوسـيلة.. لأن تلك اللقاءات القليلة  على كثرتها  لم نتناول فيها إلا ما يخلقه غيرنا من وجود بيننا رغماً عنا!! 

هنا تذكر خالد كيف أنه كان يسمع ما كان يردده بعض الطلاب عن الصادق وصفاء أحياناً، ثم على وصفاء أحياناً أخري، فيأتي ويروي لها ما سمع فتتولي صفاء عناء الإجابه، والإقناع بذكاء كان أكثر بكثير مما يخال خالد!

قالت له صفاء في آخر الرسالة:

لا أدري هل أتحدث عن ذكريات تعيش معي دائماً وأسرح معها، أم أكتب عن الحاضر الحالم، أم أفكر في المستقبل بعيون الأمنيات ؟ إذا رجعت  للذكريات.. سأقول لك شيئاً لم أستطع التصريح به من قبل. وهو أن بابي طرق كثيراً، ولكنني كنت أنتظر طارقاً تسلم أقفال القلب واحتفظ بها قبل أن أولد!.

هنا وجم خالد وأطرق مستسلماً لهزيمته من قِبَل هذا الجيش الجرار الذي الّفته المعاني والحروف حتى اصطفت سطوره في خطوط عسكرية متوازية، ورجع بناظره إلى بعض الألفاظ ليفكر في مدلولاتها الحقيقية التي لم يكن الوقت قد حان بعد  حين قرأها أول مرة  لمعرفة ما وراء سطورها!

» أم افكر في المستقبل بعيون الأمنيات! « وكاد الدمع يشرق به حين فسر الأمنيات على غير ما فسره بها في السابق حين قرأها أول مرة.

» ولكنني  كنت انتظر طارقاً تسلم أقفال القلب واحتفظ بها بها قبل أن أولد! « . دهش خالد دهشاً شديداً، وقال الآن أدركت أنني خالد ولست طارقا وان الطارق الحقيقي هو طارق آخر.. طارق جديد.. طارق.. وفجأة  وجد خالد نفسه يردد هذه العباره  ترديداً بلغ  به حد الجنون.

عبر خالد  بناظره رسائل كثيرة  في وقت  قليل، ولم  يحاول أن يقف  ليتأمل شيئاً ولكنه فجأة  وقف على قول صفاء في إحدي الرسائل..

إنني لم أكن قد فكرت يوماً في أن أمتلك بيتاً  أو أتصور شكله أمامي  بصورة جادة جداً، إلا بعد آخر لقاء لنا.. طبعاً أي فتاة في مثل عمري تفكر في المستقبل، وتتمني أنها تكون سعيدة ومحظوظة. أنا أيضاً كذلك، وأفكر في المستقبل لكن أري أن السعادة ستكون من خلال حياتنا معاً!

هنا  تذكر خالد كيف أخافها من المستقبل في ذلك اللقاء الأخير، إذ كان هو أيضاً متوجساً خيفة من المستقبل المجهول، وكان صريحاً معها، صادقاً مع نفسه، واثقاً من حبها له وإلتصاقها به.. تذكر أنه كان يقول لها أمنيتي في هذه الحياة أن نعود سوياً إلى الجذور  بعد أن ننال شهادة الجامعة. نعود إلى الأصل! نعود إلى القرية حيث نعمل على بناء منزل متواضع، ونشتغل بالزراعة لأنها ستكون مصدر ثراء محقق وشريف!!  تذكر جيداً ان صفاء  فقدت شيئاً من صفائها في تلك اللحظة، وأطرقت حيناً، وقالت »لا تسبق الحوادث «.. ودع المستقبل يشرح لنا وحده كيف سنكون.. أما سمعت الشاعر يقول:

فات ما فات والمؤمل غيب      ولك الساعه التي انت فيها 

قال خالد  بصوت مسموع، وهو يحدث نفسه: الآن عرفت أن صفاء تخلت عني ولكن سأذهب لها في الموعد  المحدد لأعرف الحقيقة..

وبدأ خالد يتهيأ  لمقابلة صفاء، وكان يقول: إن صفاء هي التي دفعتني لحبها، وهي أيضاً التي دفعتني  عنه، فما لى انا ؟

كان يقول  ذلك، وهو يبحث عن الحجة الدامغة التي يقنع بها دواخله لتجيب بالإجماع عن التمسك بصفاء.. ولم يمض وقت طويل حتى جاء الموعد المحدد لمقابلتها.. وكان اللقاء.

كان اللقاء  في هذه المرة سريعاً ومقتضباً، لم يحاول فيه خالد أن يرمي للإتساع في الحديث كما كان يفعل، بل كان موجزاً وجاداً وجامداً.

قالت له صفاء: إنني لازلت أحس بأن شيئاً لم يتغير في موقفي الأخير  ولكن ما أحب أن أوكده لك أنني مهما طال بي العمر فلن أنسي لك وفاءك  وما تعلمته منك، ولن تجد مني إلا كل تقدير واحترام. وأنا وإن قدر لهذه العلاقه ألاّ تستمر فأنا أعترف بأني أكن لك وداً غير محدود..

لم  يعلق خالد على إطرائها، ولكنه سألها سؤالاً مباشراً ان كانت حياتها العاطفية  قد دخل عليها  شخص آخر.. قال  ذلك ليطمئن لأنه يعلم أن تنازل  صفاء عن حبها له، لابد  ان يكون في مقابل ثمن كبير!.

أجابت صفاء بالنفي القاطع، وقالت أنا لست ممن يعمل عملاً في الظلام ، ولمزيد من الضحك على خالد، قالت صفاء: أعلم يا خالد  أنك ستكون أول من يعلم، إذا قدر لي مرة أخري أن أخوض تغمار الحب، ولكني أشك كثيراً في أن أتهيأ بعد ذلك لحب جديد!!.

صَدَّق خالد كعادته كل ما قالته صفاء، ولم يرد على شىء أبداً ، وكل ما استطاع أن يفعله، هو أنه قدَّم لصفاء محاضرة هادئة في الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وتمني أن هذه النهاية بداية طيبة لمشوار آخر طويل، شعاره تلك الذكريات الحالمة، واللحظات الرائعة التي عاشاها في الماضي. ثم إختتم خالد حديثه لصفاء واستأذنها للذهاب، واعتذرت إلىه كثيراً، وأظهرت ضعفها أمامه  لتبرير صنعها، وجعلت تعيد إعتذارها وعيناها مغرورقه بالدموع  وخرج خالد في صمت قاتل، وهو يقول:

                                        إذا غدرت حسناءُ أوفت بعهدها      فمن عهدها ألا يـدوم لهــا عهــد

(٥)

إنقطع اللقاء بين خالد وصفاء حيناً من الدهر، فقد إنشغل هو بوظيفته الجديدة، وشغلت هي بسالم، وامتحانات آخر العام، ولم  يمض وقت طويل حتى رأي خالد صديقه أحمد يطلب مقابلته  من موظف الإستقبال.

استقبل خالد صديقه أحمد استقبالاً كريماً وجلسا في صالة الضيوف ودار بينهما حديث غير مرتب، ولم يكن ذا قيمة وإن كان، فيما يبدو، أنه مقدمة للدخول في أمر صفاء! إذ لم يكن أحمد يتصور ان صفاء قد أخبرت خالداً، بإنهاء  علاقتها به، وكان يظن أنه هو صاحب السر الأكبر. 

أحس خالد برغبة أحمد في إثارة الأمر، فمهدّ له حتى مكنه من الدخول فيه، وشرح له كيف أن هدى أخبرته بالنبإ المؤسف والمدهش في نفس الوقت وهو أن صفاء فيما يبدو قد تعلقت بخطيب جديد اسمه سالم، وأنه لم يصدق ذلك وجاء الآن ليعرف الحقيقة.

لم يحاول خالد أن يخفي شيئاً من الحقيقة، وحكي لأحمد كل ما حدث بينهما، من تغير مفاجيء، وما آلت إلىه علاقتهما بعد هذا التغير، فطفق أحمد يخفف عليه من هول  النبأ، ويحثه على تجاهل صفاء، وعدم الإنشغال بأمرها ويقول له إنها تحب أن يخضع لها الجميع، ويزلون لعنفها وعنفوانها، وكانت تستمتع بالتجديد والتغيير ؛ لتشعر بأن أنوثتها سهم ماضٍ في كل قلب.. وذكر  له أنه تأكد جيداً من أن صفاء كانت على صلة سابقة بالصادق وعلى، وقد وعدت كليهما بالزواج كلاً على حده، وفي فترتين مختلفتين قبل أن تقع في حب خالد!.

قال أحمد هذا، ولم ينعم برد من خالد الذي إكتفى بابتسامة  ساخرة.. ثم  إنصرف الصديقان إلى أحاديث أخري، وبعد وقت وجيز كان أحمد قد استأذن ومضي مستعجلاً لمقر عمله بالمستشفي .

ودهش خالد كثيراً  للغة التي كان  يتحدث بها أحمد في ذم صفاء، وذلك لشدة ما كان يعلمه من رغبة حقيقية في الإرتباط بها.

ولم تطل دهشة خالد فقد قابله صديقه هاشم  بعد يومين من ذلك اللقاء وأخبره بأن أحمد  تقدم بنفسه لصفاء، وطلب منها الزواج قبل شهر تقريباً، وقد رفضت صفاء، وأدعت حجة واهية لإقناعه مما حدا به أن يسعي لمقابلة هدى التي كشفت له  بسذاجة متوقعة  كل الاوراق!

قال خالد لصديقه هاشم… عندما علم أحمد بتجربة الصادق وعلى مع صفاء، ثم تجربتي  الأخيرة، نظر إلى صفاء كفتاة متقلبة المزاج، ونظر إلى نفسه كطبيبٍ مأمون المستقبل، ففكر أن يؤثر عليها ليُلْحقَ خالد بسابقيه ويحظي هو بها ولكنه  وللأسف الشديد  رضي من الغنيمة بالإياب!.

صمت خالد قليلاً وقال: وأنا بالطبع لم أسمع بما فعله أحمد من قبل ولكن كان لقاؤه بي قبل يومين غريباً، وأوحي إلى انه غاضب على صفاء غضباً شديداً، ويبدو انه كان لشىء في نفسه لا للغيرة علىَّ.

قال هاشم هذه مشاهد كثيراً ما يستعرضها التاريخ على خشبات مسرحه ولذلك قال الشاعر:

احذر عــــــدوك مـــرة      واحذر صديقك الف مرة

فلربما انقلب الصديــــق      وكــان أدرى  بالمضـــــرة

وبعد قليل من الحديث استأذن هاشم خالداً وانصرف..

٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

قضي خالد جزءاً كبيراً من ذلك العام لا يفكر إلا في صفاء  فقد أصبح ينظر إلىها من زوايا كثيرة، فيتهمها  تارة بالعنف وتاره بالتردد وتقلب المزاج وأحياناً أخري بالخيانة، وحب الذات ولم يمض وقت طويل حتى تكشفت له طلاسم القيثارة التي تعزف عليها صفاء.  ونقل إلىه ما يؤكد أنها على موعد  مع سالم رغم إصرارها على غير ذلك.

 وبدأ سالم يظهر على المسرح شيئاً فشيئاً يرقبه جمهور غفير من المشاهدىن بعناية فائقة حتى إذا توسط الخشبة إنحني محيياً ذلك الجمهور.

وكان  أحمد قد إنقطع حيناً من مقابلة خالد بعد ذلك اللقاء الحزين وعاش خالد بين أصدقائه، وفي نفسه أشياء كثيرة عن صفاء، إلا أنه لم يخبر أحداً من أصدقائه سوي ثلاثة مقربين، فالجميع كانوا لا يعرفون شيئاً عن تلك العلاقه أصلاً.. ولكنه كان يخشي ظلمة الليل حين يجد نفسه وحيداً في منزل صغير متواضع ليس فيه أنيس ؛ فينظر إلى صفاء نظرات اضطراب ؛ فيغضب منها بعد أن كان  يغضب لها، ويرجو بعدها بعد أن كان يبتعد هو ؛ ليقترب منها!!.

 ثم صارت صفاء تغيب شيئاً فشيئاً عن سماء الذاكرة  الملىء بالشجن والذكريات حتى صارت في نهاية الأمر لا تمثل عنده شيئاً ، ولا تدل على شىء، اللهم إلا أنها كانت تجربة رائعة متناقضة بدأت بالدهشة واختتمت بالدهشة، عاشت بالإخلاص والأمل، وماتت بالغدر والخيانة، ولكن رغماً عن ذلك، فقد كانت تجربة صادقة  من جانبه  في حبه لها وفي بعاده عنها. صادقه لأنه حين أحبها لم يكن يفكر في غيرها، وحين ابتعد عنها لم يكن يفكر فيها!

  ٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

عاد خالد بعد فترة من الوقت إلى حياته العادية، وبدأ يستعيد الكثير من أنشطته الخاصة شيئاً فشيئاً، ثم بدأ يعمل محرراً في إحدي الصحف اليومية. وإهتم في ذلك الوقت بنشر الكثير من المقالات الفسلفية، والإجتماعية، والتي تعبر عن شعوره الخاص وتجربته الشخصية، ولكن في قالب عام لا يخص نفسه فيه بشىء ولا يشير صراحة إلى شىء.

وبدأ خالد يتألق من جديد، وقد أحس فجأة أن زميلته سلمي التي تعمل  بجانبه تتقرب منه كثيراً، ولكنه لم يبد أية استجابة رغم أنها فتاة جميلة ومخلصة  وذات خلق ودين، وذلك لأن خالداً لم يكن مهيأ في ذلك الوقت للدخول في تجربة أخري.

بدأت تتقرب إلىه، فيبتعد عنها، وكلما اندفعت إلىه اندفع عنها، دون أن يخدش مشاعرها  أو يكشف لها عن مشاعره، ولكنه حين صعب عليه الأمر طلب النقل من مكان عمله إلى أحد فروع المؤسسة  التى يعمل فيها، وعندها بدأ خالد يعد نفسه إعداداً جديداً  وزادت رغبته في العمل الصحفي ثم فوجيء بعد وقت قصير من نقله  بأن زميلته الجديدة كوثر  تكاد تصرح له بالحب. وأخذ خالد يبتعد عنها كلما ازدادت قرباً، ولكن كوثر هذه كانت واثقة من اصطياد خالد فقدكانت أجمل موظفات المؤسسة بذلك الفرع، وربما أصغرهن وكانت فوق هذا بنت رجل من أثرياء البلد، ومن مثقفيهم  وكانت تأتي للعمل بسيارة أفخم بكثير من تلك التي كانت تقل السيد المديـر!!. إلا أن كوثر لم تكن تعلم شيئاً عن الظروف النفسية التي مر بها خالد في أول تجربة له.. لم تكن تعلم أن مشكلة خالد الكبري كانت بسبب الانقياد وراء المادة والثراء والمظاهر المفخخة  للحياة.. فأصبحت الحياة أمامه مليئة بالأفكار، والحــوادث، وصــار اهتمامــه بالعمـــل الصحفــي، أكثـر ولم تكـن كوثر تعرف طريقاً لخالد رغم وجوده معها!

كان خالد فخوراً بما أولته أياه سلمي وكوثر من إعجاب، ولكنه كان نادماً على عدم استجابته لهما، لا لرغبة منه في إرضائهن فحسب، ولكن خوفاً من إصابتهما بخيبة الأمل.. فهما لا يعرفان أن خالداً  أصبح لا ينظر للنساء إلاّ من خلال تجربته تلك.  لذلك كانت استجابته تموت قبل ان تولد!

ومر خالد في ذلك العام بمواقف أخري عابرة لم يعبأ بها، وراح يعمل بنشاط وحيوية، وزادت شهرته الصحفية حتى أصبح له عمود ثابت في إحدي الصحف اليومية، ثم آثر أن يترك عمله بالمؤسسة كلياً، ويعمد إلى الصحافة وحدها..

وما إن طال انقطاعه عن الجامعة حتى أحست هدى بشوق عارم لخالد وبدأت تفكر كيف تقابله ؟ وماذا تقول له لو التقته ؟ وهل يا تري علم بمخططها أم أنه خالى الذهن شارد الفكر؟

استجمعت هدى كل قوي الشر التي دفعت بها صفاء عن خالد،  وكل قوي الخير التي تريد أن تدفع بها خالداً إلىها، وقررت الذهاب إلىه لتري إن كان الوقت قد أضحي مناسباً لاصطياده، ودفنه حياً في مقبرتها الموحشة المظلمة.

ذهبت هدى إلىه في مقر عمله ولكنها لم تحظ بلقائه وأصبحت تكرر الذهاب إلىه لعدة أيام، ولكنها لم تستطع لقاءه لأنه كان يمارس أعمالاً ميدانية خاصة ببعض الصحف، فاضطرت إلى كتابة مذكرة صغيرة تدعوه فيها لمقابلته بعد أن وضعت اللوم على عاتقه لمقاطعة الجامعة وزملائه القدامي! وما إن قرأ خالد هذه المذكرة حتى سطر لهدى رسالة مطولة، إنتهت على قراءتها كل صلة  بينه وبينها، بل وكل أمل في صلة، وقطع عليها كل فكرة كان من شأنها الإرتباط به وبيّن لها الأسباب!

وفي هذه الأثناء كان سالم قد عمق صلته بصفاء واصبحا يلتقيان يومياً في أحد ميادين الجامعة ؛ فيجلسان ويتحدثان ويخططان لمستقبلهما الحافل بالآمال..

وقد  تأخر سالم عن سفره لمقر عمله بالخارج شهراً كاملاً قضيا فيه وقتاً حالماً مليئاً بالثقة المتبادلة، والشعور العميق، بأن كلاً منهما لا يستطيع أن يعيش بعيداً عن الآخر، وأصبحت الحياة بينهما حياة صريحة وصادقة، في كل شىء، إلا قصتها مع خالد التي كانت تخفيها، فتبالغ في إخفائها مثلما كانت تحدث خالداً بكل شىء  الا قصتها مع الصادق وعلى!

(٦)

ذاع  صيت خالد الصحفي الجديد بين أوساط الطلاب، وجعل يهتم بين الحين والآخر بالذهاب للجامعة ليقرأ الصحف اليومية الحائطية، ويباشر حضور بعض أركان النقاش كي يخرج بأفكار جديدة وأطروحات مفيدة، يقدمها لقرائه، فالجامعةكانت في ذلك الوقت مليئة بالأحداث الساخنة، وقد قرب موعد الإنتخابات، ولاسيما أن الجامعة منبر أصيل للفكر الحر، وشتي ألوان المعرفة والسياسة، وقد كان خالد في فترة دراسته بالجامعة اجتماعياً كثير الهوي للروابط والصلات الإجتماعية بين زملائه، أكثر من اهتمامه الأكاديمي، مما حدا به أن يكثر العودة لمكتبات الجامعة، ومراكز المعرفة والفكر بعد التخرج.

وفي تلك الأثناء كان يجلس دائماً في موضع محدد في أحد أقسام المكتبة العربية داخل مبني المكتبة الرئيسة…  وكان يجلس في موضعه ذاك إلى اليمين من فتاة هادئة كثيرة الإطلاع والقراءة، ذات حياء وأدب جم لا يُحتاج إلى وقت لمعرفته، أو الشك فيه.. وكانت جميلة جمالاً لا يلتبس على أحد، بل وقد كانت ملامح وجهها تبعث على السرور والراحة، وكان في أنوثتها حشمة بالغة، وتدل عيناها الساحرتان على ذكاء وفطنة، وقوامها الممشوقة على ذوق وفن وإبداع. كانت ترتدي زياً فضفاضاً متواضعاً ذا لون هادئ وجميل. وكان خالد ينظر إلىها من وقت لآخر، فيجدها مشغولة في قراءتها، وكأن عالمها الذى تعيش فيه لا يحتوي إلا على ذلك الكتاب الذي بين أناملها.

احس  خالد فجأة بأن قلبه يخفق، وفرائصه ترتعد،كلما جلس بالقرب من تلك الفتاة الهادئة الجميلة.. ولم تمض بضع أيام حتى أصبح يتمنى لو تكلمه تلك الفتاة أو تكلم أحداً غيره من الحاضرين ليسمع صوتها.. وأحس خالد أن هذه الفتاة دخلت على قلبه المجروح من غير استئذان لتغير كثيراً من معالم الصورة المشوهة التي خلفتها صفاء فارتسمت على جدران قلبه وكأنها طلاء أسود عبث به طفل صغير، فنثره على لوحة جميلة ظل يزوقها فنان بارع منذ ما يقارب  العام..

وأصبح خالد يفكر كثيرا في أمر هذه الفتاة.. وكلما مر يوم إزداد ذلك التفكير والشعور .. حتى إنه أصبح يقرأ الساعات الطوال دون أن يفهم شيئاً وأصبح يتمنى ألا تغلق المكتبة أبوابها حتى لا يفارق هذا الوجه الساحر البديع ولكنه كان كثير القلق ؛ لأن هذه الفتاة لا يشغلها عن القراءة الا ما تكتبه أحيانا من ملاحظات! وبدأ  يبحث عن سبيل يدخله إلى عالم هذه الفتاة ؛ ليعرف شيئاً عن ثقافتها وأدبها ودينها، فهذا  هو الجوهر الذي  لم يعرفه بعد، أما المظهر فقد كان لا يحتاج إلى أكثر من مجرد نظرة عابرة!

تجرأ خالد يوماً، وسأل الفتاة عن الوقت فقالت له بهدوء تام إنها العاشرة.  ثم صمت حيناً وقال لها. أستأذنك أيتها الزميلة واسألك سؤالاً أرجو الا يكون فيه حرج.. فسمحت له فقال: إنني لاحظت أننا نأتي يومياً لمكان واحد وفي وقت واحد، فهل هذا عن قصد أم بمحض الصدفة ؟

ابتسمت الفتاة وقالت أنا لا أقصد شيئاً، أما أنت فلا أعرف عن قصدك شيئاً، ولكن الذي أعرفه هو أن الوقت المحدد للمكتبة قد يكون وراء هذا التزامن ان لم يكن منطقياً تكرار ذلك!

دهش خالد من منطق  الفتاة وأدبها وتهذيبها وذكائها، وعرف أن سؤاله لم يكن سليماً، ولكن ردها كان برداً عليه.. واكتفي خالد ذلك اليوم بتلك  الإجابة، ولم يمض وقت طويل حتى غادرت الفتاة على غير عادتها المكتبة وتركت خالداً الذي ما ان غابت الفتاة عن ناظريه حتى قال:

            ياليت لي الف عين      تراك من كل صــوب

            وليت لي الف قـلب      يغنــيك عن كل قــلب

 ٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

عادت الحياة إلى قلب خالد بعد أن مات قلبه ما يقارب العام  ودب الأمل إلى مشاعره المرهفة بعد أن قتلها اليأس زماناً طويلاً ولكن الحياة والأمل كانا هذه المرة تحت غطاء من الخوف الشديد! الخوف من المستقبل أصبح هاجساً يهدد أحلامه. فالأمر هذه المرة مختلف اختلاف نوع لا اختلاف  مقدار!!  فصفاء التي رفضته كانت هي التي أحبته أول مرة، وسعت وراءه، وهدى التي رفضها كانت هي التي أحبته أول مرة، وسعت خلفه، وكل أولئك الفتيات اللاتي أولاهن ظهره، كن اللاتي أحبننه وسعين وراءه.. أما هذه الفتاة فهو الذي  أحبها، وهو الذي يسعي وراءها الآن!  فكيف ستكون النتيجة إذا اعتذرت له ؟  وماذا يفعل، وماذا يقول لها، وكيف السبيل إلى ما يبتغي ؟ كل ذلك كان وراء خوف خالد وحيرته.

جاء اليوم التالي، واهتم خالد بمظهره كثيراً ، وليس ثياباً جديدة، وأخذ أوراقه وأسرع إلى حيث تجلس تلك الفتاة في موضعها بالمكتبة، وكانت دهشته  الكبيرة أن لم يجد الفتاة في موضعها ذاك، فجلس  يفكر ويتظاهر بالقراءة حتى مضي من الوقت ما يقارب الساعتين، فزاد قلق خالد وأحس بأنه  أخطأ خطأ كبيراً بسؤاله تلك الفتاة، ولكن قبل أن يقرر الخروج من المكتبة دخلت الفتاة ومعها فتاة أخري، وكانتا تتحدثان عن أمر أكاديمي يبدو أنهما اختلفتا فيه.. وطفق  خالد يرهف السمع ليلتقط تلك المحادثة الهادئة المهمة.. ولكنه  لم  يسمع شيئاً كثيراً مما تقولان ..  فزاد هذا من شغفه بحياء هذه الفتاة، وطريقة حديثها وأدبها..

جلس خالد متظاهراً بالقراءة لفترة طويلة، والفتاتان في صمت بليغ، حتى اقتربت ساعة قفل المكتبة فبدأ الطلاب يغادرون حتى خلت القاعة الا من خالد والفتاتين.. وصمت خالد حيناً، ثم تجرأ والتفت إلى الفتاتين طالباً أن يتعهرفهما إن أمكن!

لم يجد عناء كبيراً في تعريف نفسه بأنه هو ذلك الصحفي صاحب العمود الثابت في صحيفة كذا، والموضوع  الأسبوعي في صحيفة كذا، فوجد أن الفتاتين تعرفانه من خلال ما كتب معرفة حقة.. واهتمتا بمعرفته الشخصية، واكتفت الفتاتان بأن قالت الأولي إنها سناء والثانية أنها وفاء ثم بعد حديث قليل استأذنتاه وغادرتا المكتبة.

عاد خالد وسناء إلى سيرتهما الأولي فطفقا يحضران للمكتبة صباحاً  ويغادرانها في الظهر، ولكن هذه المرة اختلف الأمر قليلاً بعد أن نمت بينهما معرفة، ورمتدت بينهما صلة، لأن خالداً أصبح يتحدث كثيراً إلى سناء ثم يخرجان بعض الوقت إلى أماكن تجمع الطلاب في »النشاط« لشرب الشاي  والليمون ثم يعودان للمكتبة..  وبدأ خالد يطرح  على سناء كثيرا من المواضيع والقضايا الاجتماعية ويجد عندها فلسفة ومنطقا وآراء نيرة واستجابة ورغبة.. وكانت سناء قد أعدت له عدة موضوعات قيمة ليقوم هو بنشرها  في الصحف التي يتعامل معها.. وقد وجد خالد في تلك الموضوعات ما كان يبتغي معرفته من ثقافة سناء واطلاعها وأدبها وحياتها مما زاد  من حبه لها وشغفه بها.

ولم يمض عام تقريباً، حتى استوثقت العلاقة بين خالد وسناء وأصبح يذهب إلىها في غرفة الاستقبال ليقضي معها بعض الوقت ثم يعود إلى بيته سعيداً مسروراً لما يجده من وفاء سناء واحترامها له.. وأخيراً قرر خالد الحديث إلى سناء في أمر الزواج وكانت دهشته كبيرة حين استجابت  سناء في الحال ودون ان تتردد! ولم تمض أيام قلائل حتى أخبرها بقصته الكاملة مع صفاء  وكيف أنها رغبت فيه ثم رغبت عنه.. وقصته  مع هدى  وكيف انها رغبت فيه فرغب عنها فوجد في سناء أذناً صاغية، وقلباً عطوفاً ولساناً صادقاً، وفكراً ثاقباً، وشعوراً نبيلاً.

وبعد أيام من أخر لقاء له بسناء جلس خالد في مكتبه بمبني إحدي الصحف وهو مكتب لا يعمد الجلوس فيه إلا نادراً ؛ لأن طبيعة عمله الجديد تتطلب منه جلب المعلومات من مصادرها الرئيسة، ولكنه قرر ذلك اليوم أن يجلس لكتابة خطاب مهم وجهه لسناء  قال فيه:

“ليس من اليسير على كاتب صغير مثلي أو متحرٍ للكتابة  إن صح التعبير  أن يجسد تجربة شعورية تجمعت خيوطها في اللاشعور.  فألقت بأشعتها على بؤرة اللامكان.. ورسمت أحداثها وتصويراتها في اللازمان!

ليس له أن يستطيع تجسيد مثل هذه التجربة في صورة واضحة المعالم  محدودة الرؤي في عالم واقعى ملموس.. يشكل  الشعور والزمان والمكان أبعاده الثلاثة! ولكنها على كل حال محاولة ما كان لمثلي أن يخوض غمارها ولو لبضع دقائق، ثم إني ورغم علمي بما تقدم عليه هذه المحاولة اليائسه من فشل ذريع أراني أسرج ركابها ؛ لأن الفشل وسيلة النجاح، في كثير من الأعمال والمحاولات. تساءلت حيناً، قبل أن استسلم لقرار الكتابة . ماذا اكتب ؟ ولماذا  اكتب ؟ ولمن أكتب ؟

أأكتب لنفس الروح التي كنت أكتب  إلىها من قبل؟ وبنفس الروح ؟ أم أن الأمر هذه المرة مختلف ؟ وهل هناك دافع للكتابة، مثلما كان في السابق أم أنها  وسيلة لقطع الوقت وملء الفراغ ؟

وها أنذا بعد أن تجمعت قوي الكتابة وأضحي الأمر ملزماً قلت.. وهل استطيع أن أعبرّ بنفس الصدق القديم، واكون صادقاً حقاً ؟ أم ماذا .. هذه أسئلة عسيرة جداً.. ولكن أشد منها عسرآً  ان أجد لها إجابات! وكيف لا ؟ وهذا شخص جديد.. وجدت نفسي أبادله نفس الصدق وعين الوفاء، وأجالسه بنفس الرغبة وعين الحماس! ما إن أفارقه حتى تتوق نفسي للقائه توقاً.. ويشتاق قلبي لمحادثته شوقاً.

ولساني يقول..

         يموت الهوى مني اذا ما لقيتها       ويحيا إذا  فارقتهــا فيعــود

فهل يمكن لقلمي أن يخاطب هذا بعبارات ذاك ؟ وهل يكتب إلىه بنفس النمط ؟ وأكون صادقاً أيضا ؟

هذه الأسئلة تكاد تلجمني.. إن لم تكن قد الجمتني بالفعل، وتفزعني إن لم تكن أفزعتني  بالفعل! ولم لا ؟ وأنا بشعور واحد، وصدق واحد، وقلب واحد، وحب واحد، أمام شخصين متباينين كأكثر مايكون التباين، مختلفين كأشد ما يكون الإختلاف  بل ومتناقضين كأقصي ما يكون التناقض!!

والعرب تقول:

 ووضع الندى في موضع السيف بالعلا    مـضر كوضع السيف في موضع الندى

وهذا مقال واحد لمقامين أو هو وضع للندي في موضع السيف ووضع للسيف في موضع الندي!! ولكن ماذا أفعل ؟ وأين السيف وأين موضع الندي ؟ وكيف لا أخطيء وضعيهما، وأنا أري للندي بريقاً، وللسيف قري ؟ ولا بد أن أميز! وأن أدرك! وأن أعرف الحقيقة! رغم أن أستاذنا العقاد  رحمه الله  يقول: مواجهة  الحقيقة من أصعب المصاعب في هذه الدنيا.. أولاً لأننا في الغالب لا نعرف ما هي الحقيقة، وثانياً لأننا في الغالب لا نحب أن نعرفها إلا مضطرين، وثالثاً لأننا إذا عرفناها ففي الغالب أيضاً أنها تكلفنا تغيير عادة من العادات! إنتهي كلام العقاد .. ولكن رغم ذلك.. فلا بد  أن أعرف الحقيقة! فالمتنبي يقول:           

   وما انتفاع أخي الدنيا بناظره     إذا استوت عنده  الأنـوار والظلم ؟

وتساءلت أيضا ؟ من الذي يصور المجتمع ؟ ومن  الذي يعبر عن قضاياه! أهو المحلل الإجتماعي الذي قضي جل وقته بين أطواء الكتب، أم هو ذلك الفيلسوف الذي يستخدم القياس العلمي للأشباه والنظائر، أم هو ذلك العقل الذي يعاني ويعيش كل واقع حلواً كان أو مراً  ؟ أهي قضية فكر أم قضية لغة ؟ وهل هي قضية واقع أم قضية أحلام ؟ كل هذا استوقفني، وجعلني أتأمل التاريخ البشري بكل صفحاته ما اسود منها وما ابيض! ولكني لم أصل إلى شىء ولم اهتد إلى معني، فالمسألة شائكة متشابكة!

 عزيزتي.. أراني أعتذر كثيراً عن هذه المقدمة التي اضطررت لها اضطراراً ولكني سأوضح لك الدوافع،  أولا: أحببت أن تكون هذه الرسالة بهذا التركيب الخاص لتكون حداً فاصلاً بين ما سأكتب  لك وما كنت أكتب لصفاء حتى لا تختلط الاوراق بين حب طارف وتليد.

ثانياً: كانت رسالاتي السابقة لصفاء مليئة بعبارات الشوق والهيام، لأنه الباب الوحيد الذي كانت تفتحه لتسمح بمرور الخطابات، أما الآن فأنا أدخل من أبواب متفرقة مفاتيحها الفكر والفلسفة والأدب.

ختاماً، فإن الكلمات لا تستطيع أن ترسم صورة حقيقية لإعزازي بك  وقد وقفت بجانبي وقفة اشعرتني بالفخر والاعتزاز حتى كدت أندم  إن لم أكن  قد ندمت  على كل يوم مضي دون أن التقيك.. وها أنذا  قد أفشيت لك سراً  ظللت أكتمه حتى على أطراف نفسي ودواخلى، وحتى اصبح من طول كتمانه، لا يمثل شيئاً ولا يدل على شىء، ولا يعبر عن شىء، ولك مني الف تحية وسلام 

٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

سلم خالد رسالته هذه لسناء في اليوم التالي، ثم انتظر يومين كاملين بعد ذلك يساوره قلق شديد، ويتساءل كيف سيكون رد سناء ؟. وفي اليوم الثالث ذهب لغرفة الاستقبال فوجد الرد جاهزاً فلم يقض إلا وقتاً قليلاً ثم انصرف.

وقبل أن يمضى بعيداً  أوي خالد إلى مكان قليل الحركة، وأخذ سريعاً في فض الرسالة التي تقول:

” لا أدري لماذا وجدت نفسي مرغمة على الكتابة اليك في هذا الوقت بالذات.. ربما لأسباب أنا نفسي لا أعرفها!. المهم وجدت نفسي أكتب. عزيزي.. لقد تعاهدنا على الصراحة.. وهذا عهد قطعته أنت علىَّ قبل أن أقطعه على نفسي حين فتحت لي كتاب ماضيك كله لأقرأه.. كنت صريحاً معي إلى مدي لم أكن أتصوره وهذا ما أعجبني فيك، وزاد في ثقتي المطلقة في شخصك.. فنحن نعيش في زمن كثر  فيه الخداع والتملق والزيف حتى أصبح كل شىء مزيفاً تقريباً.. حتى المشاعر والأحاسيس يزيفونها .. لا أدري كيف ولماذا ؟ ولكنني أراهم  يظهرون خلاف ما يبطنون، ويفعلون خلاف ما يقولون!  ولعلك توافقني فأنا لم أعش  أي تجربة سابقة دفعتني إلى حكمي هذا، بل بالعكس فإن نظرتي لهذا الزمان بهذه الصورة، هي التي جعلتني أحذره! لأن للمشاعر أيضاً أناساً يتاجرون بها، ويمكن لفتاة ما ان تكون سمسارة ماهرة في سوق الحب تبيعه وتشتريه ؛ لأنها في الواقع لا تحب، وإنما تمارس ألعوبة الحب   وبعض الفتيات تستطيع صياغة أروع عبارات الحب والهيام والوجد، لتزف بها إلى من يعتقد أنه هو الوحيد الذي يجلس على عرش مملكتها المسحورة.. ولحسن الحظ أن عمر الخداع قصير وأن الزيف لا يمكن أن يماثل الحقيقة، وأن تمثل بها في ظاهره: ولكن رغم قولي هذا  أصر إصراراً حقيقياً على أنني لا أتحدث عن تجربتك السابقة مع صفاء لأنه من باب الظلم أن أحكم على إنسان لا أعرف عنه شيئاً.. وأنا لا أجزم أن صفاء  يمكن أن تمثل هذا النوع من النساء فقد تكون وقد لا تكون، لا أظلمها ولكن أود فقط أن أشير  إلى إمكانية إجادة مثل هذه الأدوار والمشاهد..  إلا أنني إقول أيضاً إن بعض الفتيات يمثلن المرأة على حقيقتها..  إذ ليس هناك أعظم من المرأه إذا أحبت حباً صادقاً ، وأقول صادقاً فحينها تكون على استعداد بأن تهب نفسها وروحها إلى من تحب، وتضرب  أروع الأمثله في التضحية والوفاء والإخلاص.. هذه حواء بكل متناقضاتها.. بكل عظمتها وعطفها وتجردها.. وكل خداعها وزيفها وتملقها.. أضعها بين يديك.

ختاماً أقول، فكما قيل إن وراء كل عظيم إمرأة، فان وراء كل إمرأة عظيمة رجل، وقد قال أبو الطيب:

             فان تكن الأنام وانت منهم    فان المسك بعض دم الغزال

وإلى اللقاء…

(٧)

سافر سالم لغربته غانماً سالماً. فقد عاد منها يحمل الأموال  وعاد اليها يحمل الآمال!

وقد نجحت هدى في أمر سالم، ولكنها فشلت في أمرها هي مع خالد! ولم يمض وقت طويل بعد رسالة خالد لها حتى سافرت إلى القرية وحبست نفسها هناك حتى وقع ابن عم لها في الفخ  وتقدم يطلبها وتم الزواج فاجتمعت نساء القرية وقلن في سخرية ومزاح، الآن عادت حليمة إلى عادتها القديمة!

وسافر سالم لغربته سالماً غانماً.. وبدأ سيل الخطابات يندفع جيئة وذهاباً بينه وبين صفاء، حتى تخرجت صفاء من الجامعة وعادت إلى دارها مسرورة بهذا النجاح.. وعملت بإحدي المنظمات الدولية لفترة قصيرة خارج بلدتها، وكانت مسرورة سروراً عظيماً بنجاحها أيضاً في احتواء سالم!

وبعد فترة قصيرة إهتم سالم بالتقدم خطوة أخري في أمر الزواج، وكتب لصفاء طالباً منها رأيها في إعلان الزواج الذي اقترح له أن يكون في إجازة العام القادم.. وسرعان ما ردت صفاء بالموافقة  وبدأ سالم يعد العدة، ويجهز لزواجه الميمون.. ولم يلبث أن وصلته رسالة خاصة من صفاء تحتوي على طلباتها  ولوازمها، ثم بدأ يستعد لتجهيز كل ذلك وهو فرح مسرور..

إقترب الموعد المحدد للزواج، وكانت صفاء قد أخفت هذا الأمر كعادتها من أهلها في انتظار أن يحضر سالم بنفسه، ويتقدم لها عند والدها في بداية الإجازة التي سيتم  فيها الزواج.. وكتب سالم خطاباً  أوضح فيه لوالديه وإخوانه رغبته في الزواج من تلك الفتاة الجميلة التي حضرت معهم زواج شقيقته.

فرح أهل سالم فرحاً شديداً لأنهم رأوا الفتاة وعرفوها واعجبوا بأخلاقها وأدبها، وهللوا وابتهجوا  لهذا الأمر السعيد.. وبدأ الخبر ينتشر شيئاً فشيئاً  بين طلاب الجامعة، وكل من يعرفون صفاء  ولم يبق إلا شهرين للزواج.. وبدأ الخاصة والعامة يستعدون لكرنفال الفرح الكبير، الا أهل صفاء الذين لم يعرفوا شيئاً ولم يسمعوا عن شيئ!

وفي هذه الأثناء كان خالد مشغولاً بسناء وكان يحكي لها كل  ما يسمع عن أمر صفاء، وكانت تملؤها الدهشة لما تلاحظه على وجهه من سرور وغبطة بزواج صفاء المرتقب، وكانت تظن في بادىء الأمر أنه يتظاهر بالفرح، ولكنها سرعان ما اكتشفت انه مسرور من دواخله، بزواج سالم من صفاء رغم أنه لا يعرف سالماً معرفة خاصة، ولكنه لا زال يريد لصفاء أن تعيش سعادتها، وكان فرحه بأمر صفاء يزيد من حب سناء له، وتمسكها به وتقديرها لوفائه… وكان أكثر ما يفسر  سرور خالد أن علاقته بصفاء كانت السبب الرئيس لإختياره الموفق لسناء ؛ مما جعلها تكبر يوماً بعد يوم في عينه ولم يمض عام آخر، حتى كانت سناء قد تخرجت من الجامعة، وأقبلت على فرحها الأكبر حيث تم تحديد زواجها من خالد، وابتسمت الحياة لخالد وسناء، وفرح الأهل والأصدقاء بهذا اليوم السعيد.. ودقت الطبول، وزفت سناء لخالد في موكب كبير من الفرحة والسعادة والأمل.. حتى دخلا عشهما الميمون ، لا يسمعان عما حولهما، من هذا العالم شيئاً، ولا يريان إلا نور سعادتهما الذي أضاء الأفق من حولهما، ولم تمض أيام، حتى سافر خالد وسناء، إلى مكان لم يعلنا عنه ؛ لقضاء عطلة سعيدة هانئة..

٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

جاء سالم من غربته يحمل الهدايا والعطور والملابس والأموال  وقضي  يومين بين أهله الذين تملأ الفرحة بيوتهم وعيونهم، ثم جاء الموعد المحدد للسفر إلى حيث  تقيم صفاء وأهلها، وبدأت الرحلة السعيدة الشاقة إلى بيت صفاء وما إن دخل سالم وأهله الشارع المؤدى لبيت صفاء حتى رأوا الأنوار تضىء، وتنطفيء، منها الخضراء، ومنها الحمراء،  ومنها البيضاء.. ورأوا الناس  يدخلون ويخرجون، والأطفال ينشدون، ويمرحون، فزاد هذا من دهشتهم! وما أن وقفت عربتهم أمام هذه الجموع الغفيرة حتى حدث ما لم يكن في الحسبان ووقع ما لم يقع على بال! إنها  الصدمة الكبري! والفجعة العظمي، وقاصمة الظهر، فقد زفت صفاء إلى  صديق والدها الحميم!!!

بكي سالم من فرط دهشته، وبكت أختاه اللتان كانتا معه وتحركت العربة إلى غير هدى، ومن غير هدى!. ولم يمض كثير من الوقت، والأهل في صمت مطبق حتى قال سالم بعد ان استجمع قواه:

إذا غدرت حسناء اوفت بعهدها     فمن عهدها الا يدوم لها عهد

٭٭٭  ٭٭٭  ٭٭٭

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.