مع عبدالله محمدخير في مشواره الطروب

مدخل إلى الشاعر 

عبد الله عبد الله محمد محمد خير، شاعر فذ ، ذائع الصيت ، ملأ ساحات الغناء الشعبي أدباً وفناً ، وهو من مواليد قرية الككر بالجابرية ، بمحافظة الدبة بالولاية الشمالية .

بدأ حياته الفنية والأدبية قارضاً للشعر عام 1958م ، ولا زال على قيد الحياة الشعرية واهباً أحاسيسه وعواطفه ومشاعره الخاصة لكل ذي ذوق . فهو الذي أحب الجمال ، وعشق الحسناوات ، وغنى للأرض والتراب .

اشتهر بألقاب كثيرة منها »عبد الله عبدون « و » الشاعر « واشتهر بشاعر الرسائل الخمس التى عم ذكرها الآفاق . وكان في مرحلة من مراحل شعره يدعى »جميلاً « اقتداء بجميل بثينة لشبه علاقته العاطفية به في بعض الوجوه . وقد قال عن نفسه :

يا بثيــنة جميـل ليهو حق

                    في هـواك لو قلبــو اتحـرق

وقال في مكان آخر :

تقبل والله ما تقبل مجبور ترضي باللحصـل

بعد يومين  (جميــل ) سـيد الاسم بيصل

 هــذا ، والكـلام عن عبد الله الشاعر ، يجعل اللغة  عندي  أداة عصية لا تلين لها قناة ؛ لأن السمة المميزة لكلماته ، تعيد للذاكرة أسماء عربية كان لها أبلغ الأثر في تاريخ الشعر العربي ، منذ الجاهلية ، وحتى عهد الدويلات.

ونشير هنا للشاعرين جميل بن معمر ، وعمر بن أبي ربيعة على اختلاف لونيهما وعنترة وقيس بن الملوح وكثير عزة ،لما اتصفوا به من عاطفة جياشة ، وإحساس دفاق وشوق دفين لمحبوباتهم .

والعلاقة طردية ، فهذا الشاعر لما يتبوأ من مكانة سامية بين  شعراء المنطقة  يوجب علينا ان نقف  متأملين وفاحصين وجوهاً كثيرة في شعره يمكن ربطها  بأفكار وخواطر وقضايا تلك الحقب الشعرية .

وإذا جاز لنا في هذا المقام أن نستخدم التعريف الجوهري ، للشعر العربي ، لجاز لنا أن نقول  ودون تردد  إن شعر عبد الله موزون ومقفى ، ثم هو محدث في النفس لذة لامثيل لها ، ولا نظير في كثير من الأعمال الأدبية المعاصرة . بل إن كثيراً من تلك الأعمال لاتتعدى  تلك اللذة التي نجدها في لغة التخاطب اليومية ، إن صح أن للغة التخاطب لذة تذكر .

وعبد الله فوق هذا كله ، شاعر مطبوع ، نافذ الإحساس ، ثاقب الفكر ، متوفز الشعور ،كثير الابتكار ، قليل المحاكاة ، سهل الألفاظ ، رقيق العبارة ، جزل المعاني ، إلا في مواضع قليلة لا يسلم منها كثير من المبدعين .

كتب ما يربو على الخمسـمائة قصيدة ، تخلل النغـم ثلثيـها ، وحفظ القلب  وردد اللسان  أكثر من نصفها ، وله قصائد كثيرة باللغة الفصحى ذات بال ، إلا ان موضوع البحث لا يسمح بالتركيز على شئ منها .

له ثلاثة دواوين شعر مطبوعة هي » أنا المعجب « ، و»كلام في الحب والوطن «  و» أشجان الشيخ العاشق « .

ثقــافته :

هذا الشاعر برغم قلة نصيبه من التعليم الأكاديمي ، نستطيع أن نقول عنه بجرأة ويقين ، إنه شاعر مثقف ، ومطلع ومتطلع إلى المعرفة ، بشتى ضروبها ، وقد أدخل في شعره أسماء بعض الشعراء العرب ، الذين أدرك بحسه الذكي ، أنهم كانوا يحيون حياته وينهجون منهجه ، في اتجاهاتهم الشعرية ، وولههم بالمحبوب على اختلاف العصور ، فهو يقــول :

أقضي نهاري دايح في الهجير

                         بقيت يا عزة ولهان زي كثير

وفي موضـع آخر يقول :

أنــا ما » جميــل « العــاش متيـم كم  سـنة

وماني » الملوح « عاش مطوح عد عمرو مع المني

أنـا زول جديد …

وهو الذي يمثل نفسه بعنترة العبسي في قوله :

أنا غلبت » كثير « وفت » جميل « بقيت » عنتر «

ليـأتي فيقول :

متين يا » عبلة « تسمعي أنة الشاكى

                        وترحمى للمريض القلبــو حباكى

وبالنظر إلى قصائد الشاعرنرى أن ثقافته الواسعة قد سمحت له بأن يأخذ بعض المعاني القديمة التي تطرق لها العرب ، ولو كان هذا المجال يتسع لأفردت باباً كاملاً في ذكر المعاني التي أفاد بها من ديوان العرب ، ولكن سأكتفي ببعض الأمثلة .

 يقــول الشاعر :

إنت سبب لهيبو وحرقتو ومأساتو

                        وإنت سقيتي من خمر العذاب كاساتو

حيث أخذه من بيت أبي الطيب في مدح الطرطوسي :

قطّعت ذيــاك الخمار بســــكرة

                        وأدرت من خمـر الفـــراق كئــوسا

فلولا القافية وتحكمها في شاعرنا ، لطابق قول المتنبي لفظاً ومعناً قائــلاً ( وانت سقيتي من خمر العذاب كئوسا ). أو كان لأبي الطيب  لولا أن خشي خللاً في الـوزن  أن يقول ( وأدرت من خمر الفراق كاساتو ).

ويمكنك أيضاً أن ترى التطابق في المعني الذي يرمي إليه عجزا البيتين ثم العلاقة الملموسة بين كلمتي العذاب والفراق. هذا من جهة اللفظ ، أما من جهة المعني فكلا الشاعرين حُرِم من لقاء الممدوح أو المحبوب ، وذاقا في ذلك شتى ألوان العذاب .

والشــاعر بعد ذلك يتناول معنى آخر في نفس قصيدته ، كان قد تنـــاوله أبو الطيب أيضاً وفي ذات القصيدة المادحة .

 يقول صاحبنا :

أبدع ربى في تصـويره لى آياتو

                        وخلي قليبى قصر ما وصل غاياتو

وهو ما قصد إليه أبو الطيب في قــوله :

بَشَــرٌ تصـوّر غاية في آيــة

                        تنفى الظنـــون وتفسد التقييسا

وبه يُضنٌّ علي البــرية لابها

                        وعليـه منــها لاعليــها يوسي

ولســــــنا بحاجة  إلى ملاحظــــة ما اشــترك بينهما من لفـــــظ (كتصـوّر ) و (تصــويرو ) و ( غاية ) و (غاياتو ) ، و ( آيـة ) و (آيـاتو) ، بقدر مانحن بحاجة إلى تأمل المعنى الذي عنياه وهو أن الله جل شأنه أبدع في تصوير المحبوب أو الممدوح إبداعاً معجزاً ، ثم إنهما حرما من لقائه مع هذا الجمال ، وذلك الإبداع ، وزاد أبو الطيب بقوله إنه حرم على البرية كلها .

وأراني في حل من الاسترسال في مثل هذه النماذج ، وسيتمكن القاريء بحصافته من ملاحظة ذلك وما أكثره .

أوزانه الشعرية

قلت فيما تقدم ، إن الشعر الذي يقرضه عبدالله موزون ، ومقفى فلنرى الآن إلى أي مدي كانت هذه الأشعار موزونة ومقفاة ؟

وعموماً يمكننا القول بأن كل ما كتب الشاعر كان موسيقياً ، ولكننا الآن بصدد التزامه الحق بأوزان الشعر العربي (العمودي ) وقوالبه الستة عشر المعروفة . ولا أكون مغالياً أو متكثراً ، إذا قلت إنه استخدم معظم أوزان الشعر العربي ، وحتى الصعبة منها ، استخداماً صحيحاً دون أن يدري ما العروض وماهي زحافاته وعلله ؟ودون أن يكون ذلك من شواغله . وبرغم الصدمات العنيفة التي لحقت بأوزان الشعر العربي القديمة وقوافيه في الآونه الأخيرة ، ومنذ بداية العصر الحديث وظهور ما يعرف بالشعر الحر ، والشعر المنثور ، أو النثر المشعور ، أو حل الشعر ، وما إلى ذلك من الأسماء ، التي  تعبر عن هذا اللون من الأدب ، فإن شعراء المنطقة ، وكثيراً من شعراء السودان ، ظلوا يلتزمون إلى حد كبير تلك الأوزان ( البحور ) .

أما صاحبنا ، فقد كان بصورة خاصة ، يكتب أشعاره في قوالب العرب تدفعه إلى ذلك سجيته العفوية ، وأذنه الموسيقية ، دون أن يعمد إلى تتبع العروض . والحديث يطول لو تتبعنا أوزان الشعر الستة عشر ، وما يصاحبها من منهوك ، ومشطور ، ومجزوء ، لنرى أين تقع أوزان صاحبنا منها .لذا فمن الأفضل أن  نكتفي ببعض الأمثلة ؛ لتكون من باب دلالة الجزء على الكل . فإذا  أخذنا مثلاً بحر الكامل المكوَّن من » مفاعلتن مفاعلتن فعولن«  نجد الشاعر يقــول :

بسوق السيرة ما بنزل وحيدى

                        ومن شتلاتنا بقطع لي جريدى

فبتقطيعها تصبح :

                بَسُوْقَسْسِيْ/ رَمَاْبَــنْزِلْ / وِحِيْدِي 

  //o/o/o  /  //o/o/o   /  //o/o

                                    وُمِنْ شَتْلاتْ / نَبَقْطَعْ لَيْ / جَرِيْدِي

                         //o/o/o    /   //o/o/o   /  //o/o    

واذا اخذنا بحر الكامل مثالا آخر » متفاعلن  * ٦ « نجده يقول :

سألوني نان مالك تدلك في الدرب

                        مالن مشاويرك بقت مابتتحسب

وهذه بالتقطيع تصير :

            سـَأَلُونِنَاْنْ /مَاْلَكْ تَدَلْ /  لِكْ فَدْدَرِبْ

             ///o//o    /  /o/o//o   /   /o/o//o            

                                    مَاْلِنْ مَشَاْ/ وِيْرَكْ بِقَتْ/  مَاْبْتِتْحَسِبْ

                                      /o/o//o   /  /o/o//o  /  /o/o//o       

ومثـالاً ثالثـاً نأخذه من بحر الهزج المؤلف من مفاعيلن *  ٢ :

ترانى حلفت بى الله  وتانى بقول وحات الله

والشاعر أيضاً ، يستخدم بحوراً  أخرى ، كالرمل » فاعــــلاتن*٦ « كقوله :  يا زمان بالله اشهد         يا زمان بالله أشـهد

وهي من مجزؤ الرمل . وقـوله :

أي زول شاهد جمال وجهك مشي وجا

                        وقـام بــلا يشـعر علي واديك دجـا

            أَيْ يِزُوْلْ شَاْ / هَدْجَمَاْلْوَجْ / هِكْ مَشَوْجَا

             /o //o /o    /   /o //o/o  /   /o// o/o

                                    قَاْمْ بَلايَشْ/ عُرْعَلِيْ وَاْ / دِيْكِدَجْ جـَا

                                    /o//o /o   /  /o//o/o   /  /o//o /o

هذا برغم أن بحر الرمل من البحور التي لم تذكركاملة ، إلا نادراً جداً . وليكن خامس الأمثله من بحر الرجز المؤلف من مستفعلن * ٦ .

وبالرغم من أن هذا البحر في عرف العروضين والنقاد يسمي (حمار الشعراء ) لكثرة استخدامه ، وقربه من الكلام العادي ، فان شاعرنا برع في استخدامه في قصيدته (لون القمر ) براعة تعفيه من هذا الإتهام :

من الأزاهر وانـدي يا لــون القمر

                        يا المنو صافى واهدي يا زينة العمر

وبتقطيعها تصير :

            مِنْ نَلْ أَزَاْ / هِر ْوَنْ دَيَاْ /لُوْنَلْ قَمَرْ

            ســالم  / ســـالم  / ســـالم

                                    يَلْ مِنْ نُصَاْ / فِوْوَهْ دَيَاْ / زِْنتَلْعُُْمُرْ

                                     ســــالم / ســـالم / سـالم

وسادس الأمثلة أختاره من بحر الخفيف ، والذي تصعب فيه الكتابة باللهجة المحلية ؛ لأنه من البحور المركبة من تفعيلتين هما فاعلاتن مستفعلن .  ورغماً عن ذلك فشاعرنا يستخدمه بسهولة ويسر في بعض قصائده.

ففي قصيدة »صابر جــرا « يقــول :

البـلد مالك هاجـــرا    صابحي حزنـاني مقنجـرا

البلد ما / لك هاجــرا     شلتوليه يا / صــابر جرا

فاعــلاتن / مستفعلن     فاعــــلاتن/  مستفعلن

وكذلك في قصيدته » يالحديثك شوقنا ليك «

فالأمثلة السابقة التي ذكرناها ، تؤكد صدق مزعمنا فيما ذهبنا إليه ، ولو لم نخف ونخش التطويل لأوردنا من الأمثلة مالا يعد ولا يحصى ، لذا سأكتفي بما تقدم من أمثلة والجزء يدل على الكل .

أما إذا انتقلنا إلى الجزء الثاني من التعريف وهو ما يتعلق بالقافية  فإننا نجد أن شاعرنا يلتزم القافية في كل نصوصه . ولم يكن هذا عظم الظهرعندي أو بيت القصيد . فالشاعر أكثر من هذا قد (لزم مالا يلزم ) في كثير من قصائده  هذا الفن المعروف ، كما استخدم أيضاً فن التسميط وبعض فنون الشعر الخمسة عشر المعروفة .فالشاعر نجده يستخدم اللزوميات في شعره ناحياً في ذلك منحى أبي العلاء المعري ، والذي انتهج منهجه أيضاً الشاعر السوداني المشهور الحردلو ، وبعض شعراء الحقيبة. وسأضرب مثالاً واحداً ، لكل نوع من لزوميات صاحبنا : التزم الشاعر حرفين في قصيدته سيد الفتنة :

سيد الفتنة يالحـبك ملـــــــكنا   

تهـــنا وفي هـواك الشـوق  هلكنا

صــبرنا ولاخطبناك لا شَـــــبكنا  

راجيـن قلنـا تتحـلل  شِـــــبَكْنا

نحن شن سـوينا يا طيبنا  ومِســكْنا  

وبلا الهـوي من هواك تب  مامَسَكْنا

فهذان حرفان باعتبار أن الألف وصل ( الكاف والنون ) . ثم يلتزم الشاعر ثلاثة أحرف في قصيدته ( عيني باردي ).

صلاة النبي عيني باردي    على الشايلي الصفيح واردي

غزالة اظنو جات شاردي    صيـدا ولـجنـاهـا فـاردي

ويذهب الشـاعر إلى أبعـــد  من ذلك ، فيلتزم أربعــــة أحرف في قصيــدته ( داريهو ) :

قوامك جل باريهـو    وحات ليلاً مباريـهـو

غلبني أقوم أجاريهو    غراق بلحيل مجاريهو

وهذا باعتبار الهاء وصل والواو خروج رغم صعوبة تخريجهما في اللهجة الشايقية والشاعر بعد لم يكتف بلزومياته ، فهو أيضا استخدم كثيراً من حروف الروي الصعبة التي يسميها البروفيسر عبد الله الطيب (القوافي النفر ) لصعوبة الاستمرار في القصيدة  التي تقفي بها ، ونلاحظ أنه ينجح تماماً دون أن نلمس التكلف في قوافيه . ومن هذه الحروف الجيم والشين والضاد ، ويمكن النظر لقصائده المشهورة :

» طولت شايل الذكري في عيني للعيد المضي  «   

و » الحن نـار عويش إن علقــوها تعيــــش «                و » الرقيص بعدك وقف يا ســتو ادي الدارة خجة «

 البلاغة في شعره

تمتاز قصيدة الشاعر بألفاظ سهلة سلسة  لطيفة ، لا تجد بين صفوفها حشوا ولا نفوراً ، ولا يميل بها إلى تكلف أو  تعقيد ، فعباراته واضحة المعنى  ذات جرس خاص،  يحدث في النفس ارتياحاً ، وفي القلب انجذاباً .

والكلام عن ألفاظ الشاعر عموماً ، أو لغة الشعر ،كما تسمى ، يقودنا للحديث عن البديع . لذا  أرى أنه من الأفضل أن نستخرج شيئاً من هذه العلاقة في كلمات شاعرنا ، تاركين الحكم من بعد  ،للقارئ الكريم .

فالشاعر لا يميل للزخرف اللفظي كثيراً ، وإذا سمح لقلمه الشاعر باستخدام شيئ من هذا اللون ، فإنه لايكون مكرراً ممجوجاً ولا متعمداً ممقوتاً ولاشاذاً معللاً ، فهو يرسل ريشته الطائعة دون أن ينوي أو يعمد إلى إدخال المحسنات البديعية في شعره ، ومع ذلك فهذه المحسنات تعد سمة بارزة وظاهرة ملموسة في كل قصائده .

وسأتعرض فيما يلي ، لبعض أبواب البديع  ، من باب الدلالة بالجزء على الكل :

الجناس :

يقــول الشاعر :

زولي الراسي بي هجراني مين أوحالو

                                    وسابني مع الغرام خايد براي أوحـالو

ويقــول :

جسـيمو يحاكي جــزلات الحــرير

                        وضميرو يعــذب الزول في الضمير

ويقول أيضاً:

دا أب طبعاً رقيق يا أبـزيد

                         عليك اللـه إنت داري

شلتو رحلت فايت بيهو

                        داراً مـاهـــــا داري

الطــباق :

يقـول الشاعر :

رضيت أنا أشقي شان أرضي الأهل من جم

رضيت أنا اشقي شان أسـعد بنات  العــم

ويقــول :

جــدياً كان » ولــوف « و » جفــل «

وهو الذي قال :

عشان عارف السميحين زيو في قلة

                        كلما  قـلنا  ينـزل  لينا  يتعـلي

وأرجو أن يسمح لي القارئ الكريم أن أنوه إلى الجرس اللفظي الذي ينطوي عليه البيت ، والتناسق الرائع بين اللام والعين والقاف ، المتمثلة فيه والتي تذكرني دائماً بالبيت الشهير :

لم يطل ليلي ولكن لم أنم

                        ونفي عني الكرى طيف ألم

التــورية  :

يقـــول شاعرنا :

رجاي يا غالي جود لو باليسير

                        ماالنـدي أصـلو من طبع الخـدير

ويقول في موضع آخر :

كان بَقّتْ كمان اللّمـبة معــذورة

                        كيف بتضوي ليكي وعينا مكسورة

فعينا مكسورة كناية عن الحياء ، وهو المعنى البعيد المقصود أما المعنى المتبادرإلي الذهن ، هو أ ن زجاجة اللمبة مكسورة .

المعــاني :

أما الحديث عن المعاني فمرتبط عندي بموضوع البيان بصورة عامة والمجاز بصورة خاصة  . لذا فمن الضروري أن نرى أين تقع كلمات صاحبنا من هذا الفن البلاغي ؟ . فإذا أخذنا تعريف ابن قتيبة (ت ٦٧٢ هـ ) باعتباره أول من تَبَلْوَر على يديه هذا المصطلح ، نجده يشمل الاستعارة ، والتمثيل، والتقديم ، والتأخير ، والحذف ، والتكرار والإخفاء ، والتعريض ، والكناية مع أشياء أخرى .

 والإجابة سهلة وصريحة كما السؤال ، ويمكن الاستدلال على كل باب بالتمثيل ،والإشارة ،والتلميح فقط، دون ان نغوص في تفصيلات البلاغة .

الاســتعارة :

الاستعارة بشقيها المكني ، والتصريحي ، واسعة الاستعمال عند شاعرنا أ و ربما كانت في كل بيت ، أو صدر بيت ، إن لم تكن في كل تفعيلة  أو عروض . ولنأخذ بعض الأمثلة :

            وينو الحبيب نور الظلام ليه انطـفا

            ومالو القمر من دارنا  يا ناس اختفا

ويقـــــول :

            يا ناس حـوا ما ولـدت غزال قبالو

            واما جمالو الله من الفراديس شالو

ويقـــــول :

            بحبك وفي هواك ذاب قلبي واتبخر

ويقـــــول :

وعمري كلو نذرتولي قَمَري المطول مني غاب

ثم هو يقول :

وغــريبة ما بكـت العيــون في  يــــوما داك

لما انكتم نَفَس القليب الكان بشيل هوا  من هواك

وهذان البيتان يحملان في طياتهما ثلاث صور بلاغية : مجازاً مرسلاً في » بكت العيـون « واستعارة مكنية في » انكتم نفس القليب « ثم جناساً في  » هــــــوا من هـواك « وجميع هذه الصور تتمتع بتجانس وتوافق لا يقل شأواً عما نشهده في أبيات الشعر العربي الفصيح .

المجـاز المرسل :

ولقد تعرضت في حديثي عن الاستعارة إلى مثال من المجاز المرسل وهو قول الشاعر بكت العيون ، لأن العيون لاتبكي ، بل يبكي صاحبها ، وهو من باب إطلاق الجزء على الكل ، لذا ، فسأكتفي بمثال آخــر فقط  :

قلبي الحزين مشتاق متين

وسط الأهل والجيرة يمسك أصبعا

يكسيه بي خاتم حــرير

الكنـاية  :

أما الكناية فإنك لا تكاد تقرأ لشاعرنا بيتاً  أو بيتين ، إلا وقد تخللتهما كناية . فهو دائماً يطلق اللفظ ويريد به لازم معناه ! فهل كانت الكناية شيئا غير هذا ؟ .يقـول عبد الله :

بعـد ما جبنا ريحتنا وفركنا

                        دي تالت مرة مالو هبر شركنا

ويقــول :

كفـــاك زمن شربت عســل

                        وهـــاك اتجـرع الحنــظل

وهذا البيت يعيد للذاكرة بيت ابي الطيب :

فمساهم وبســطهم حـــرير

                        وصبحـهم وفرشـهم تـراب

ويقول شاعرنا أيضاً :

فتـــرت غلبــني أجاريــهو

                       غـراق بلحيــل مجــاريهو

ويقــول :

والعجــب العجيب ايــدو المـلاني غويش

شفـنا التـلة لكن مافي حــس كشــكيش

وهو ما عناه الشاعر بقوله :

تجول خلاخيل النساء ولا أري

                        لخولة خلخالاً يجول ولا قلبا

التشـــبيه  :

وقبل أن أبدأ  الحديث عن التشبيه ، يجدر بي أن أؤكد تأثير البيئة في تشبيهات شاعرنا واستعاراته . وهذا شئ طَبَعي ، فالبيئة لها عظيم الأثر في تكوين الروح الأدبية عند الشاعر . وقد برع صاحبنا في الوصف والتشبيه والتمثيل إذ يقول :

لونو زي قمحا مصوبر في التقا

                        نازلة زي الليل ضفايرو مفرتقة

ويقـــول :

سهام عينيهو يمضي كأنو سيف

                        وأمام ألحاظو عنتر ما بيقيف 

وأرجو أن يلاحظ القارئ  العلاقة بين العيون والألحاظ وعنترة والسيف .

زولــــن فراقـــو علينا مر

                        ضـــواي جبينــو بلا البدر

ويقـــول :

                        ياقصيبة التقنت الدفق تسابه

                                                جمال الخلقة والخلق اكتسابا

وقصيبة التقنت هي القصبة التي تنبت في طرف الحوض وتكون عادة مروية لقربها من الجدول أو الأحواض المجاورة أو لظاهرة » الترا « لذا فهي دائما غليظة الساق ، وتعرف بجودة ثمارها واخضرار عودها وأوراقها . اختارها الشاعر مثالا لمحبوبته الجميلة فارعة القوام طيبة المنبت ، ولم يكتف الشاعر بهذه الأوصاف ، بل أضاف لمحبوبته صفة جديدة لم يجدها في القصبة وهي جمال الأخلاق … وهذه صورة بديعة ، وليت الشاعر قال إن الخلق اكتسى بها لا أنها اكتسبته ، واللفظان وزنهمها واحد وكتابتهما واحدة في لهجتنا المحلية ، إلا أن الفرق هو كسر تاء الأولى التي عناها الشاعر ، وفتح الثانية التي نعنيها ، وواضح الفرق في المعنى .

ولم يكن شاعرنا ليكتفي بتناول التشبيه في صوره العادية ، بل استخدم أيضاً أنواعاً أخرى كتشبيه التمثيل .

كان جيت بـراك أو جيت في وسط الزحام

ما بشوف غيرك وحاتك . . .

وقبلي مين شاف النجم واقف مع بدر التمام

وتاثير البيئة نراه أظهر في كثير من قصائده ، وقصيدته التي كتبها للشاعر محمد سعيد دفع الله خير دليل :

يـوم فرحـك القلـب الحـزين كلو انشــرح

وكل مافي طير فوق الغصــون غني وصـدح

والـدارة ضـــاقت لما جـا الوزين ســــبح

والمنقــة زادت في الصــَفار لــونا انفـتـح  

والنيل يبارك ليك كيف لاشك انو يكون طمح

والشاعر بعد لا تخلو قصائده من الحكم :

أصبح زي دريويش همو في الرقيع

                        هو ما بيقدر جيب القمرة بالجديع

ويقـــول :

ما بيدري كيف الغربة غير المغترب

                وما بضوق عذاب الضربة غير زولاً ضرب

هذا ، والصور الجمالية في شعره كثيرة يكاد يخطئها العد ، إلا أن صوراً بعينها في شعره تسترعي الانتباه . منها:

يكتب الأشعار في هـــواك

                        لا عرف لا بيعرف سواك

جاك وقيعك وبقى في حواك

                        إلا ضــربك آه أوجـعو

فالشاعر في بحثه عن رضى المحبوب يوضح له أنه لم يكتب شعراً إلا فيه  وهذه مبالغة ، لأن الشاعر عادة تتعدد أغراضه ومراميه . وشاعرنا هذا بصورة خاصة أحبهن فرادى وعشقهن توائم ، أليس هو القائل :

خلهن سوي لا تفرقن   يالله توماتي انا بعشقن ؟

ثم إن الشاعر يحب الحسن أينما وجد ، وهذه نعرفها من خلال أغلب قصائده.. ولكن هذا خيال رائع شرح فيه صدر البيت بعجزه الذي إنطوى على ما يسميه البلاغيون إيجازاً بالحذف إذ أن أصل البيت :

يكتب الأشـعار في هــــواك

                        لا عرف سواها ولا بيعرف سواك

فهو  على حد تعبيره  لا يعرف إلا محبوبه وأشعاره التي يقولها فيه وهو  تصوير رائع . أما البيت الثاني فهو من قول أبي نواس :

كــــن إذا أحببت عبـــداً    للـــذي تهــوي مطيــعا

لما فيه من الاستكانة ، والخضوع والطاعة . وعجز البيت ، ينطوي على كناية رائعة .

ومن المعاني الرائعة التي تمثلها ديوان الشاعر وقاموسه ، قوله :

يفيض بحرك يعم    وما فيه من تالاي سقاي

في القصيدة المشهورة ، التي نسي فيها الحبيب عامداً متعمداً ، إذ يقول :

صحيح حسـدوني فيك زمن عزلتك وقالو نقاي

ما عـارفني بقـدح وبشقي ساكت وماني لقـاى

يفيض بحـرك يعــم وما فيه من تالاي  سـقاي

انظر إلى الكلمتين » يفيض ، يعم « لترى كيف أتى الشاعر بكلمتين في سياق واحد أخراهما جاءت لتقوية أولاهما ! فالفيضان زيادة في منسوب النيل تصل النيل باليابس المجاور ، ولكنها لاتفيد العموم ، فربما لا يصل الماء بعض الروابي العالية ، لذا فالشاعر أراد أن يزيد من قوة الفيضان بالعموم ليفاجئنا بعد كل ذلك بأنه قريب محروم ! 

كلمة أخيرة أود أن أهمس بها في أذن القارئ الكريم ، وهي أن هذه الصفحات  ماهي إلا وقفات على أمشاط الأصابع ، أشرت فيها لجوانب قيمة عكسها لنا الشاعر في بعض قصائده ، وهي قيض من فيض، وأدري أن الذي فاتني منها أكثر من الذي أدركته ، وأملي أكبر في أن يجد هذا الأدب الخفي طريقه إلى نور الأقلام الأديبة ، ونقاد الكلمة الرقيقة ، وباحثي التراث الأصيل .

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.