المنظور الإسلامي لمخاطر الاستثمار

المنظور الإسلامي لمخاطر الاستثمار

د. توفيق الطيب البشير

تعتبر المخاطرة واحدة من أهم مهددات التوسع في النشاط الاستثماري، إذ أنها تمثل إحدى العوائق الرئيسة في اتخاذ القرار الاستثماري. فالمستثمر يسعى إلى تحقيق أكبر عائد ممكن بأقل درجة من المخاطرة، رغم التعارض البيِّن بين الهدفين، فمن المعلوم أنه كلما ارتفع العائد المتوقع من الاستثمار، كلما زادت درجة المخاطرة. 

والمخاطرة هي احتمال حدوث نتائج غير مرضية، أو هي الخوف من مستقبل العملية الاستثمارية، وعدم التحقق من نجاحها، وربما الخوف من الفشل.

والمستثمر الفرد بطبيعته يتسم بخاصية النفور من المخاطرة فلا يحبذ المجازفة بالمخاطرة، ولا يقبل تحمل مخاطرة معينة إلا إذا كان هناك ما يبرر ذلك في صورة عائد مرتفع. 

والمخاطر التي تهدد النشاط الاستثماري كثيرة جداً ، منها ما يتعلق بطبيعة العملية الاستثمارية ، ومنها ما يتعلق بأطراف الاستثمار ، ومنها ما يتعلق بالبيئة المحيطة بالعمل الاستثماري ، ويمكن تقسيمها إلى قسمين هما المخاطر الاقتصادية والمخاطر غير الاقتصادية:

فالمخاطر الاقتصادية، يقصد بها مجموعة المخاطر التي تعترض العملية الاستثمارية من الناحية الاقتصادية بشكل عام، كالمخاطر الخاصة بتوقعات ودراسات المستثمر والمتعلقة بمدى نجاح المشروع الاستثماري واستمراره، ومخاطر تنفيذ العمليات داخل المشروع، ونوع العلاقات القائمة بين وحدات المشروع، والوحدات الاقتصادية والمالية الخارجية، والمخاطر المتعلقة بسمعة وملاءة أطراف العمل الاستثماري. هذا بالإضافة إلى مجموعة المخاطر المتعلقة بظروف العرض والطلب على منتجات المشروع، وما يترتب عليها، أو يؤثر فيها من المخاطر الاقتصادية العامة المتوقعة أيضاً، كارتفاع معدلات التضخم، والكساد، وتغير السلوك الاستهلاكي للسلعة المنتجة، أو الخدمة المقدمة، وحجم المنافسة ، وقوى السوق ، وخلافه .

 وهذه المجموعة من المخاطر تلعب دوراً كبيراً في اتخاذ القرار الاستثماري، ذلك لأن الاستثمار في الأصول الرأسمالية والإنتاج ، ينطوي عادةً على أعباء مالية ضخمة ، ولفترات زمنية طويلة نسبياً ، ولذلك فإن ظهور أي من هذه المخاطر المحتملة سيؤثر تأثيراً معيناً على اتخاذ القرار .

أما المخاطر غير الاقتصادية، فهي مخاطر البيئة المحيطة بالمشروع ، كالقوة القاهرة ، أو القرارات التي تصدرها الدولة بشأن الاستثمار سواء كانت قرارات سياسية أو إدارية ، والمخاطر العامة كالسرقة والحريق  …… إلخ، هذا بالإضافة إلى مخاطر الإدارة الناتجة عن تصرفات ، وقرارات إدارية غير سليمة.

 

النظرة الإسلامية لمسألة المخاطرة: ـ

إن التعاليم الإسلامية نشأت واقعية لأنها تتعامل مع الواقع البشرى، فهي ليست أفكاراً خرافية، وليس للخيال دور في تصوراتها ومبادئها، لذلك فالإسلام يعترف بوجود المخاطرة ويتعامل معها بواقعية واعتدال فلا يميل إلى قبولها مطلقاً ولا إلى رفضها بالكلية.

فالاقتصاد الإسلامي يرفض كل الممارسات التي تنطوي على المخاطرة الجسيمة كالربا والميسر، والمضاربات الفاسدة ، والبيوع التي يدخل فيها الحظ بشكل كبير كبيع الملامسة ، والغش ، والجهالة ، والغرر ، وكل ما لا يقدر على تسليمه ، وبيع الحصاة ، وبيع ما لا يملك ، والنَجْش ، وبيع المحاقلة ، والمزابنة ، وبيع السمك في الماء .  ولكنه مع ذلك يقر التصرفات المشروعة التي تنطوي على المخاطرة التي بمعنى تقلب العائد المتوقع حصوله مستقبلاً. وفي هذا يقول الإمام ابن القيم:” المخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجارة، وهي أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها، ويربح، ويتوكل على الله في ذلك، ومخاطرة الميسر الذي يتضمن أكل المال بالباطل، فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله مثل بيع الملامسة والمنابذة، …… ، ومن هذا النوع يكون أحدهما قد قمر الآخر وظلمه، بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة، ثم بعد هذا نقص سعرها، فهذا من الله سبحانه وليس لأحد فيه حيلة.

إذن فمخاطر أسعار الفائدة الربوية، ومخاطر المضاربات الآجلة، وتقلبات أسعار العملات الناتجة من عدم التقابض، ومخاطر المجهول كنهه، والمعدوم، وغير المقدور على تسليمه، كل ذلك مما لا يجوز في الإسلام. ولكن رغم ذلك فالإسلام يعترف بعدم واقعية افتراض حالة التأكد من عائد المشروعات الاستثمارية؛ وذلك لارتباط عمليات الاستثمار بالظروف المستقبلية المنطوية على المخاطر وعدم التأكد. وبالتالي فهو يقر ويجيز عمليات المشاركة والمضاربة القائمة على مبدأ الغنم بالغرم، والذي يتعرض المستثمر بموجبه لدرجة من درجات المخاطرة، وعدم التأكد .

والإسلام لم يضع هذا المبدأ في مجال المعاملات فحسب، وإنما نجده في مجال العبادات أيضاً، إذ أن المؤمن يعمل لآخرته ، وهو لا يدري إن كان عائد ذلك العمل ربح مفض إلى الجنة ، أم خسارة تفضي إلى النار ! وذلك لحديث رسول الله ص لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا : ولا أنت ؟ يا رسول الله ! قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة . سددوا . 

ومن ذلك قول الله عز وجـــــل { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] . وفي شرح هذه الآية قال الحسن البصرى رحمه الله :” المؤمن يعمل بالطاعات ، وهو مشفق وجل خائف ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن ” .

ولكن الله عز وجل ينهى عن اليأس من روحه ، ويأمر الناس بالعمل والطاعة  ولا يطالبهم بضمان العائد ، فهم مُبْتَلُون بالربح والخسارة ، وهو ليس بظلام للعبيد ، وهو الرزاق ذو القوة المتين . فأيما رجل أقام عملاً يريد به وجه الله ، فإن الله يرزق من يشاء بغير حساب .

 والذي ينظر بعمق للمعاملات المالية في الإسلام ، يرى أن المخاطر لا تكاد تمثل أمراً مهيباً يخشى منه . لأنه في ظل توفر دولة إسلامية ومجتمع ملتزم بالضوابط الشرعية للاستثمار ، يتصور أن تقل المخاطر إلى حدها الأدنى لغياب الفائدة الربوية ، والغش ، والجشع ، والاستغلال ، والظلم ، وما إلى ذلك ، مما يشكل عبئاً إضافياً على المخاطر المحتملة . 

وفي المقابل فقد عوّد الإسلام الناس على ركوب المخاطر وشق غبارها فمنعهم من اكتساب أي عائد للمال بدون مخاطرة ، فحرم القرض بفائدة لأنه مضمون العائد ، وأجاز القراض بحصته من الربح المحتمل للطرفين .

وسمح الإسلام لصاحب رأس المال القابل للإيجار كالمعدات والآلات بأجر مقطوع أو بحصة من الربح، ويتحمل صاحب هذا النوع من رأس المال المخاطرة لأنه يبقى في الإيجار مالكاً للمأجور .

ولكن الإسلام مع ذلك لم يجعل المخاطرة سبباً يحرم على ضوئه الخبائث أو يحل الطيبات. فهناك أعمال كثيرة محرمة لانطوائها ـ ضمن مضارها الكثيرة ـ على المخاطرة، كالميسر، والربا من جانب المقترض، إلا أنه وفي نفس الوقت هناك أعمال كثيرة أباحها الإسلام، وهي منطوية ـ رغم منافعها الكثيرة ـ على المخاطرة كالمضاربة، إذ يخاطر رب المال بماله وهو محتمل للخسارة كلها إن وقعت، والمضارب يضحي بجهده كله إن فاته الربح.

بيد أن الإسلام لم يترك الحبل على غارب المخاطرة لتتجه بالمستثمر حيث شاءت، وإنما وضع لها نظماً وضوابط تُخْرِج من قائمتها ما ليس منها كالتعدي والتقصير في مسألة المضاربة من جانب المضارب مثلاً ، كما أجاز الشارع أن يشترط رب المال شروطاً من شأنها تقليل المخاطر المحتملة فيما يسمى بالمضاربة المقيدة ، هذا بالإضافة إلى ما شرعه الإسلام من الضمان في حالة الإقراض  والبيع ، كما ورد في حديث السيدة عائشة من أن النبي ص اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد . 

وكذلك ندب الإسلام إلى تحمل المخاطر في المشروعات الزراعية بمعنى أنه إذا أصاب الزرع نقص لا يمكن دفعه كان لصاحب الزرع ثواب .  والدليل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله ص قال :” ما من مسلم يغرس غرساً ، أو يزرع زرعاً ، فيأكل منه طير ، أو إنسان ، أو بهيمة ، إلا كان له به صدقة ” .

ومن العوامل المساعدة على ركوب المخاطر ما يسمى بالضمان الاجتماعي ، أو التكافل الاجتماعي ، والتأمين الإسلامي فإذا خسر المسلم في عمله ، أو تعرض لجائحة أو كارثة لم يترك هملاً ولا سدى ، بل يلقى المعونة والمواساة من المجتمع والدولة . 

ومن هنا نخلص إلى أن المخاطرة المحيطة بالمشروعات الجائزة أمر يعترف به الشرع ، ويعتبره من صروف الواقع ، وبالتالي فالإسلام ، لا يرفض المخاطرة بإطلاق ، بل يجعلها في ما يجوز من الأعمال ، نتيجة محتملة تؤدي إلى الإقدام للعمل ، مع نية التوكل على الله الرازق الباسط ، كما يجعلها في الوقت ذاته سبباً للاحتياط والعمل بوعي وحسن تصرف وتدبير. ​

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.