محمد أحمد الحبيب بين العبرات والعابرات

الشاعر محمد أحمد على الحبيب شاعر مُجيد، صادق في شعره، قوي في عباراته، جزل في معانيه، سلس في ألفاظه. يكتب الشعر بالطريقة التي يتعامل بها مع جميع الأشياء .. ليس هناك شيء في دنيا الحبيب أسهل من اللغة التي يكتب بها.. يطوعها كيف يكون التطويع !! ويطبعها كيف يكون التطبيع .. هو بالطبع ليس أفضل شعراء المنطقة.. ولكنه بالقطع من أفضل شعراء السودان.. وواحد من أميز شعراء الوطن العربي على مستوى القصيدة النمطية الشعبية الدارجة .

كنت انوي الكتابة عنه منذ زمان بعيد.. ولكنه صديق أقعدتني صداقتي به عن مدحه ونقد شعره الذي أحبه واتأمله في معظم أحوالي التي أصفو فيها مع نفسي واتآنس مع الشعر والأدب.

هو لا يعرف المداراة .. ولا الموالاة … ولا المناجاة … ولكنه يصب حديثه وشعره للعامة حين تكون دلالته للخاصة !!! ويخاطب الخاصة من أحبابه باللغة التي يحبها العامة !!! ويمازج بين الشدة واللين … والمتعة والإحباط … ويضرب الأمثال حين تتعذر الحقائق.. ويؤثر الصمت حين ينتظر الناس منه الكلام. ويرتجل النثر حين يخشى على نفسه من دبيب الشعر ولسع القوافي!! …

وصف محبوبته وصفاً رصيناً رفيعاً شاملاً لكل جميل فيها ، ولكنه فرّقه على جميع شعره.. فلا تكاد تعرف عنها شيئاً إلا إذا وقفت على شعره كله !! ووصف نفسه وكأنه جزء من هذا النسيج الذي أحاط بمحبوبته حتى لا تكاد تعرف من هو الحبيب ومن هو المحبوب !!!.

هذه وقفة على أمشاط الأصابع سأكتبها على أجزاء سميتها “محمد أحمد الحبيب بين العبرات والعابرات”. لم أكن أنوي بها إلا تسليط بعض الضوء على كنوزه الخبيئة.. ودرره المدفونة .. وجواهره المكنونة .. فهو رجل فرض على نفسه البساطة وخص نفسه بالانزواء.. وكتب على نفسه أنه شقي في مواطن السعادة .. وسعيد في دار الشقاء!!!…

هو الشاعر اللطيف الجميل ، النادر إنساناً، والعميق شاعراً، والبسيط سلوكاً ومنهجاً !! عاشرته زماناً طويلاً فلم يزدني علمي بأحواله إلا جهلاً بأسراره.. ولم يزدني بعدي عنه إلا تعلقاً بشعره وحباً لشخصه ..

وعابرة التي امتدحها حتى اقشعر بدنه، واضمحل قوامه، وغار غزاله، ليست كليلى التي عشقها المجنون حتى مات من العشق .. ولا هي كنوار التي مات الفرزدق نادماً على طلاقها ندامة الكسعي!!! وإنما هي مجرد قصة عابرة في حياته بحق!!! فهو صادق إلى أبعد غايات الصدق في هذا. ولا أدري ماذا سيكون حاله إن لم تكن هذه الجعفرية الغالية مجرد قصة عابرة في حياته !!!! وماذا سيكون حاله أن لم يكن قلبه قد تعلقها عرضاً !!! وماذا سيكون حالنا نحن إن كان هذا الشعر كله في متعلق بها ليست مجرد عابرة !!!!

ثم إذا خالجك شك في أنها ليست عابرة كما يقول .. جاءك بشك أكبر من هذا فقال لك العابرة ليست هي وليست العلاقة التي بيننا … إنما العابرة هي قصيدتي فيها !!! فزادك شكاً إلى شكّك وحيرة إلى حيرتك !!!

كلما اقــــــول آخر دي عابرة.. تاني ألقى اشعاري تسري

تنـــــــــدفع قدامي دافــــــرة ……زي مياه النيل بتجري

وفي بوادي احزاني فاضت ..وما اتكست وجداني خضرة

ما أعظمك أخي الحبيب شاعراً !!! أنظر إلى التقديم والتأخير الرائع في “كلما اقول آخر دي عابرة” والمقصود ” كلما اقول دي آخر عابرة !!! ثم انظر إلى الحرب التي تستعر عنده بين المفردات عندما تتنافس عند باب بيته !!! تندفع قدامي دافرة … زي مياه النيل بتجري !!! وانظر كيف خص مياه النيل بالجريان دون غيرها لأنه يريد أمراً آخر غير الجريان !!! وهو العذوبة التي هي حال غير مقصود لمحل مقصود!!!

ولكن ماهي النتيجة ؟؟؟

فاضت بوادي أحزانه ولم تكتس وجدانه بالخضرة التي هي من توابع هذا الاندفاع والجريان والفيضان .. أنها صفحة من صفحات الإبداع عن شاعرنا الحبيب ..

بدأ الحبيب هذه القصيدة الرائعة ببيت عجيب التكوين غريب المحتوى ممتلئ الرجاء عميق العتاب ..

عابرة يا بت المداين ، ثم استطرد قائلا والمدن ما فيها عشرة !!! ولم يكن بالطبع يقصد إلقاء اللوم على المدينة أو رميها ببعض الحجارة .. كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، ولكنه نثر وصفاً طابق موصوفه!! فالمدن إذا ما قورنت بطيبة القرية وحنين أهلها حيث تربى شاعرنا ، وحيث الناس بنو عمومة وخئولة عرباً كانوا أم عجماً .. وهم جميعاًًًًًًًًًًًًً كذلك “زيتهم في بيتهم” يزرعون سويا ويحصدون سوياً ويأكلون سوياً ويجتمعون على المريض ويتفرقون على نية الاجتماع، لعلمت أن المدينة بضجيجها وزخمها ومشغولياتها وعدم تجانس أيامها ولياليها لا تكاد تشبه ذلك العالم الذي عشقه الحبيب وترعرع بين كثبانه وشرب من ثديي نيله !!! كما أنه تفادى تلك المشافهة القاتلة التي لجأ إليها أبو الطيب المتنبي حين صرخ بغدر الحبيبة قائلاً :

إذا غدرت حسناء أوقت بعهدها فمن عهدها الا يدوم لها عهد

فجاء الحبيب ملقياً باللوم على المدينة خوفاً على المحبوب من وقع السهام !!!! وجاء بمحل غير مقصود لحال مقصود !!! ثم قال :

يا حليل ايام وراحت خلفت جوايا حسرة ..

وحينما اعتاد الناس أن يتباكوا على الماضي الجميل فجعنا الحبيب ببكائه منه لا بكائه عليه !! وكيف يبكي علي ماض تكوّن من تراب الحزن وسيل الدموع!!!

للأسف يا عابرة عارف إنو في دربك ضياعي

إلا برضو مصر أجازف حأظل طول عمري ساعي

ولي عيونك لازم أوصل وحتى لو ما اليلي بكرة

الاسف عند الحبيب عبارة لطيفة مليئة بالحسرة محاطة بالدموع ليس من معانيها الاعتذار الذي درجت العامة على إطلاقه ولذلك تجده يقول في موضع آخر

دافن حبي سبعة أراضي آسف لو ظهر في وشي

لا بترضيهو لا أنا راضي يا عابرة العليك على

وهذا البيت نفسه من أجود ما كتب الحبيب وفيه شيء من نفس الشاعر العملاق اسماعيل حسن حين يقول :

يا مرسال رسايل الشوق زمن كايس أراضيهم

وصف لي درب الريد عشان أوصل واراضيهم

فيقول

للأسف ياعابرة عارف إنو في دربك ضياعي

إلا برضو مصر أجازف حأظل طول عمري ساعي

تصور أن الحبيب يعلم حجم الخطر المحدق به وقد ذكر طرفاً منه في مواضع كثيرة ولكن بتلميح ذكي يمكن الوصول إليه ببعض التأمل!!! ومع ذلك فهو ماض في هذا الطريق الوعر ولم يفت عليه أن يستخدم لفظ المجازفة لتأكيد الخطورة والوعورة ثم يستخدم السعي لتأكيد الحرص وشدة الرغبة ويستخدم الإصرار لتأكيد الوصول إلى الهدف مهما كلفه الأمر .. وهو صورة سبقه ببعض منها الشاعر البديع إبراهيم ابنعوف ولكن بشئ من الخنوع واليأس حين قال :

كوسي لي الخلاص من بدري في حبك تراي غرق

عارف نفسي ما بلقاكي ساكت فيك متعلق

وما عناه الشاعر ابراهيم كان قمة في الاستسلام لحاله التي يرثى لها بينما نجد الحبيب كان قمة في النضال من اجل الهدف وكلاهما أجاد وأحسن فيما ذهب إليه تحقيقاً لغرضه الذي استخلص منه المعنى.

ومن بديع لغة الحبيب أنه يفيد المعنى بأرق العبارات أنظر إلى المجاز المرسل في قوله ولي عيونك لازم أوصل .. وكيف أنه عاود الإصرار على الوصول إلى محبوبه مهما كلفه ذلك وفي اعتقاده أن المسألة مسألة وقت فقط وليس ثمة شيء آخر .. ولا يفوت على القارئ الحصيف أنه حينما يصرح بصعوبة الوصول إلى محبوبه إنما يؤكد قدر وعزم المحبوب فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم!! ويؤكد قدر نفسه كذلك حين ينتصر على معضلته ويحقق هدفه ، وهو ذات الأسلوب الذي كان يستخدمه عنترة العبسي حين يقول:

ومدجج كره الكماة نزاله لا ممعن هربا ولا مستسلم

جادت له كفي بعاجل طعنة بمثقف صدق الكعوب مقوم

فعنترة يثبت منتهى شجاعته من جهة قوة خصمه وشجاعة عدوه وهذا منتهى الروعة في التعبير والبراعة في الوصول إلى الهدف.

نواصل

كيف سواسيك أسوقا في الضحى الحلق حديو

لي جزارات غالي سوقا فيها كل المافي زيو

لا قدرت أغش اتاجر ولا ني قادر ارجع أقرا

هنا يدخل الحبيب في معركة جديدة مع العلاقة المتكتم عليها من جهة ومع الواشين المتربصين من جهة ومع نفسه وطبعه الذي ليس بمقدوره تغييره مهما عبست الدنيا في وجهه ورشه السحاب بالماء الحار .

كيف سواسيك أسوقا في الضحى الحلق حديو

هذا البيت عجيب عجيب!! وسأقف عنده طويلاً .

أولاً : المعني القريب

شبه الشاعر العلاقة التي تربط بينه وبين المحبوب بعلاقة الأم بولدها الرضيع من حيث المودة والإلفة والرقة والعطف والحنان …. ولذلك رأى هذه العلاقة “كالسواسيو” الصغيرة التي تتبع أمها “الدجاجة” حيثما اتجهت وتقدم لها هذه الام الشفوقة العطوفة كل ألوان الحماية

والرعاية وتسعد بكونهم قريباً منها وكأنه يقول :

إن الذي بيني وبين حبيبتي وبين بني جلدي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا!!!

(مع الاعتذار للشاعر الكندي للتصرف في البيت الاول)

ثم يبدأ الشاعر يشرح شيئاً فشيئاً خوفه على هذه العلاقة الحميمة من الواشين والمتربصين من أفراد المجتمع الذي يحيط به، فشبه حاله كدجاجة تود أن تجمع بين تمكين أطفالها من الحصول على قدر من الحرية بخروجهم إلى الفضاء الرحيب وتحت ضوء الشمس الدافئ، وفي ذات الوقت تحصينهم من الأعمال الهمجية للصقور الظالمة التي تبدأ بالاختطاف وتنتهي بالقتل وسفك الدماء !!! إنها صورة بديعة لا يمكن تجاوزها إلا بعد كثير من الإعجاب . وتكون العلاقة هنا المشابهة بين علاقة يريد لها قدراً من الحرية والظهور ويخاف عليها من الوشاية والحسد المؤدي لتدميرها وإفشالها، وبين دجاجة تريد لأبنائها التمتع بالحرية في ضوء النهار وتخاف عليهن من الصقور المجرمة في نظرها والمعتدية على حقوق الغير

!!!

ثم لماذا اختار الحبيب وقت الضحى بالذات؟؟

من المعلوم أن الحدأة تكون على ارتفاع من الأرض وأن (السوسيوه) دجاجة وليدة، وبذلك فهي صغيرة الحجم فيكون النظر هنا في أمس الحاجة للضوء الكامل لأنه نظر من على بعد لشيء صغير الحجم ومن هنا جاءت كلمة الضحى تفيد معنى مهماً في بيان خطورة الموقف ومسرح الجريمة !!! … هذا فضلاً عن أن الضحى فيه كناية عن الجوع لأن الحدأة خرجت بعد ساعات من الظلام تبحث عن ضحيتها فهي الآن أشد شراسة من حالها بعد الزوال حيث تكون قد وجدت ضالتها وأطفأت شهوة بطنها… إذن فالضحى يشير إلى قوة الإبصار وإلى شدة الجوع… وكلاهما سبب قوي لوقوع الجريمة !!! وبالتالي اشتداد الحظر على ما تعمل الأم على رعايته والحفاظ عليه وهم أطفالها

ثانياً: المعني البعيد المقصود:

إن خلاصة الفكرة تدور حول علاقة حميمية وادعة بين حبيبين يريدان إظهارها ويخافان عليها من الأعداء وهي على هذا النحو كعلاقة دجاجة خرجت بأطفالها الصغار الذين لا حيلة لهم في مكان شديد الإضاءة تريد منحهم قسطاً من الحرية ينالونه. وفي الجانب الآخر من المسرح صقور جائعة خرجت في الصباح الباكر تبحث عن ضحيتها. والأم تدرك الخطر… فكيف لها ان تخرج إذن… والحالة بهذه الخطورة !!! ولعله أراد أن يقول إن الأمن مع السجن خير من الخوف مع الحرية

ونواصل

ثالثاً : الصور البلاغية :

كيف سواسيوك اسوقا في الضحى الحلق حديو

يحتوي هذا البيت على مجموعة من الصور البلاغية والجمالية نذكر منها:

أولاً: انطوى هذا البيت على استعارتين تصريحتين هما “سواسيوك” و”حلّق حديو”… فالأولى شبه فيها حبه والعلاقة التي بينه وبين المحبوب بالسواسيو وحذف المشبه وصرح بلفظ المشبه به. والثانية شبه الواشين من حوله بالصقور في الجو تسمع وترى وتخطف وتظلم. وذلك على نفس النسق الأول.

ثانياً: احتوى البيت على تشبيه التمثيل، لأن وجه الشبه هنا صورة منتزعة من متعدد. ويتمثل في حرصه على صون هذه العلاقة وتوفير الأمن لها وتمكينها من الظهور بدلاً من بقائها في الظلام ، وبين الدجاجة التي تخشى على صغارها من الحدأة وفي ذات الوقت تريد لهم أن يتبختروا في ضوء النهار.

ثالثاً: البيت كله استعارة تمثيلية، فالشاعر وهو يرسم هذه الصورة المليئة بالحركة لا يقصد الصقور ولا السواسيو ولا المشهد برمته. وإنما يقصد أمراً مختلفاً أشرنا إليه بتفصيل .

وكل ذلك تناوله الشاعر بطريقه بديعة تملك المشاعر وتأثر القلوب وتشغلك عن المقصود الحقيقي الذي اختبأ بين ثنايا التعبير.

رابعاً: أحتوى البيت على كناية عن موصوف هو الضحى فالشاعر يقصد الضوء وطلب الرزق… فما اعجب هذا الحبيب.

لي جزارات غالي سوقا فيها كل المافي زيو

وهذا أيضاً بيت عجيب وفيه تفنيد لكثير من نظريات الاقتصاد الجزئي ، إذ فيه طرق لنظرية العرض والطلب وفيه طرق لنظرية ما يسمى بآلية الأسعار وفيه إشارة إلى ما يسمى بالمرونة السعرية للطلب غير المرن، حيث إن ظاهر نظرية العرض والطلب تقول إن الشئ إذا أصبح نادراً غلا ثمنه وإذا أصبح متوفراً نقص ثمنه إلا أن الحبيب إخذ بالنظرية الخاصة بالمرونة السعرية حيث يقول أن الأسعار غالية رغم الوفرة !!! وهذا لا يتحقق تحت قانون الطلب العادي وإنما يتوفر عندما تصبح السلعة ضرورية لا يتنازل عنها المستهلك لمجرد ارتفاع السعر!!! هل لاحظت كيف أبدع في التعبير عن هذه الصورة ؟؟

لي جزارات غالي سوقا فيها كل المافي زيو!!

أما من الناحية البلاغية فالبيت فيه ثلاث صور بليغة : مجاز مرسل وكنايتان عن موصوف !!! فالمجاز المرسل في قوله جزارات غالي سوقا والسوق لا يغلى وإنما الذي يغلى هو مافي السوق من سلع لذا فقد اطلق المحل وأراد الحال وعبارة “فيها كل” كناية عن موصوف هو الوفرة وعبارة المافي زيو كناية عن موصوف هو الجودة!!!!

ونواصل

رابعاً: نظرة في عموم المعني :

كيف سواسيك أسوقا في الضحى الحلق حديو

لي جزارات غالي سوقا فيها كل المافي زيو

لا قدرت أغش اتاجر ولا ني قادر ارجع أقرا

هذه الأبيات مليئة بالحركة غارقة في الإبداع محاطة بالعجب .. وللمتأمل أن يسأل لماذا أراد الحبيب أن يسوق “سواسيوه” إلى “جزارات غالي سوقا” ولماذا يخشى من الصقور ؟ وماهي النتيجة التي وقعت ؟ ولماذا؟؟

فالحبيب حينما رمز إلى علاقته المتينة مع المحبوب أراد أن يسمو بها إلى حيث يناسب قدر المحبوبة!! فالمحبوبة كما وصفها في مكان آخر (جعفرية وغالية وماها متل بنات الحي ) وفي البيت أيضاً لنا وقفة قد تطول لاحقاً ولكن هو يريد إجمالا لهذا الحب أن يكون رفيعاً بمستوى المحبوب الغالي الذي لا يشبه “المحبوبين” ، ولذلك فهو ذاهب بهذا الحب إلى حيث يكون المكان الغالي الرفيع ذو الجودة والمنعة !! إذن كيف حدد هذا المكان ولماذا اختار الجزارات ولم يختر مكاناً آخر ؟؟؟ هنا يكمن إبداع الحبيب وتتجسد براعته ويتوفز شعوره ويرتقي تصويره !!! فالشاعر حينما مثل لعلاقته “بالسواسيو” كان المكان الرفيع لهذه السواسيو هو الجزارات حيث تكون الغاية من وجودها هي الاقتيات!!! فالناس يحسنون تربية السواسيو لكي يأكلوا لحومها ، وهي داخلة في عموم لحوم الطير التي ضرب بها المثل في مكان رفيع !!! وهي مجازاً من طعام أهل الجنة !!! وأكل اللحوم له صلة أخرى قوية بالوشاة الذين يأكلون لحوم البشر وهم مصدر قلقه ، فكان للحال مناسبتان !! ثم إنه لما كانت هذه الغاية تتطلب التلميح بالجزارات كان لابد أن يرتفع بهذه الجزارات ليكون سوقها غالياً وبضاعتها غير مزجاة !!!! ولكن!!!

يعود الحبيب من حيث أتي ويرجع إلى حيث كان لأنه محاط بالنمامين والمشائين بالنميمة وها هو يؤكد خوفه في مكان آخر :

حبل الصلات البينا أقوي من المســد

لولا “مناشير” المشايخ والعمـد

فجعوني في ريدي القديم لما إتفقــد

يوم فقدو كان يوماً عجيب هزاني جــد

“باعوهو” لي زولاً غريب شالو وشــرد

خلاني في غمرة شقايا بلاسنــد

حسيت إني فقد هنايا إلي الأبــد

في لحظة عِن ساعة الصفاح لُمان عَقد

إذن فالحبيب يود أن يخرج بهذه الصلة الرفيعة إلى نهار الحرية ويعلنها تحت شمس الضحى ويرتفع بها إلى مصاف (الكبار) !! ولكنه يخشى عليها من هؤلاء الوشاة ومن هذه المناشير ومن تلك النتيجة التي وقعت فعلاً .. ولذلك وفي لحظة انهزام رفع صوته قائلاً

لا قدرت أغش اتاجر ولاني قادر أرجع اقرا !!!

ما اعجبك وما ابدعك وما اروعك أخي الحبيب ..

وهنا اتساءل !! ما علاقة الغش بالتجارة وما سبب ذكره العودة لمواصلة القراءة والتعلم ؟؟ هنا يكمن السر وتبدأ الأمور في الانكشاف شيئاً فشيئاً ..

كيف سواسيك أسوقا في الضحى الحلق حديو

لي جزارات غالي سوقا فيها كل المافي زيو

لا قدرت أغش اتاجر ولا ني قادر ارجع أقرا

وعلى الرغم من التفصيل الذي سقناه في شرح هذه الأبيات الثلاثة المدهشة ، فإننا لم نستطع حتى الآن سبر أغوارها ولا فك شيء من طلاسمها ، وفيها يكمن سر العلاقة العميقة بين الحبيب و”عابرته”!!! ويمكن لمزيد من الإيضاح أن نقسم هذه العلاقة العجيبة من واقع الأبيات الثلاثة إلى ثلاثة محاور :

المحور الأول يتعلق بالمحبوبة وموقفها من هذه العلاقة .

المحور الثاني وهم الناس من حوله والذين كان لهم دور في إفشال هذه العلاقة وقد تحدثنا عنه .

المحور الثالث ويتعلق بالحبيب نفسه وموقفه مما يدور في المحورين السابقين .

أما المحبوبة فهو لم يصرح بوضوح حتى هذه اللحظة بموقفها منه ولكنه حين قال :

لا قدرت أغش اتاجر ولاني قادر أرجع أقراً أصاب تلميحه شيء من التصريح، ورمزه شيء من التوضيح. ونحن لا نود أن نكشف من الأسرار أكثر مما سمحت به قرائن التصريح ، أما ما جعله رمزاً فسنحرص على إبقائه في حظيرة الرمز.

وأما المحور الثالث محور المُحب “الشاعر نفسه” وهو المحور الأهم ، فقد كشف لنا البيت الثالث أنه لن يستطيع أن يخرج من صمته بشيء يخرجه عن طبعه ، ولن يتنازل عن مبادئه مهما عز عليه الفراق وطالت عليه الدياجر !! فهو ذو معدن أصيل لا يستطيع أن يخادع مهما تطلب الموقف، وتساقط الجليد على زجاج محنته!!! ولنا أن ننظر كيف عبّر ببراعة عن هذا الخداع !! إنه استخدم الغش في التجارة كناية عن الغش في طلب المحبوب !! وهنا لم يخرج عن استعارته التمثيلية الأولى التي أنشأها، وقد تحدث قبل قليل عن جزارات وعن سوق غال ولابد أن يكمل هذا السيناريو بموضوع التجارة !! هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لم يفت على سرده الذكي أن يربط بين جشع التجار عندما يتعلق الأمر بالجزارة، وهذا معروف في بلدنا أن نطلق على التاجر الجشع بالجزار!! وهذا لا يعني أن الجزار جشع ولكن المقصود هو أن التاجر الجشع يقطّع زبونه إربا إرباً كما يقطّع الجزار مفاصل الخروف!! ولذلك سمي الجشع من التجار بالجزار. وهنا يأتي سبب الربط وتأتي قوة التعبير!!! ولكن هل هذا هو غاية ما يرمي إليه الحبيب ؟ بالطبع لا ، فالحبيب مثلما ملأ بيته الأول بفنون البلاغة وتجليات الأدب ، وملأ بيته الثاني بنظريات الاقتصاد وهارات البيع والشراء ، كان حرياً به أن يمر ولو مروراً عابراً على حياتنا الاجتماعية ونفق العادات السالبة بقليل من الرمز قبل أن يعبر إلى ما يشغله من أمر “عابرة” !! فأشار بذكاء عريض إلى الخداع الذي يبرزه الخاطب عندما يريد أن يخطب “ود” خطيبته، وكأنه الأفضل والأقدر على تحويل حياتها إلى سعادة أبدية وفرْش طريقها بالورود والرياحين !!! وهو ما لا يستطيع ” الحبيب” أن يفعله لأن طبعه يغلب تطبعه !!! وصدقه يسبق صداقه !!! وعشقه باق على الرغم من كل ما يحدث !!!

أما المحور الأول والذي يتعلق بالمحبوبة العابرة والتي برع في مدحها وتمييزها عما سواها حسناً وذوقاً وطبعاً وروعة ، لم تكن هي الأخرى ببعيدة عن حبائل الواشين وشراك الحاسدين!! فهي لم تسلم من هذا المكر الذي حاق بصاحبها ولم ترجم شيطان تلك الأكذوبة القاسية بحصى العشق وحجارة الحب !!! أسمعه يقول :

وانا كت شي مجهول يا عابرة لولاكي

مع اني أول زول من بين ضحاياكي

فرشتي عمري الشاق أشعار من إملاكي

كانت على الإطلاق أجمل هداياكي !!!

وهنا يبدو لي أن شيئاً من السر قد انكشف !!! وبعضاً من الغموض قد انجلى!!! وها نحن قد عرفنا لماذا قال :

لا قدرت اغش واتاجر ولاني قادر أرجع أقرا!!!

فلله درك يا عميق الفكر والإحساس .

ونواصل

أقرأ إيه من غير عيونك وإنتي لي عيني سراجها

في زمانن قلّ نورو وشح في الروح إبتهاجها

وكل ما أصيح يا عابرة وينك في الصياح تخنقني عبرة

يستطرد الشاعر الحبيب هنا مستلهما درس “السواسيو” و”الحدايا” ( في اللغة الحدو جمع حدأة) و”الجزارات” و”السوق” وانتهاء بعدم القدرة على القراءة ( وهنا يقصد العودة للتعليم) فيهجم عليه معنى جديد رائع التكوين فائح الرائحة قوي الدلالة والمضمون !! فعابرة التي يتطلب أستبقاؤها الرجوع إلى الدراسة لا يستطيع الدراسة بعيداً عنها !!! فهي النور الذي يقرأ به !!! واستخدامه للسراج هنا استخدام موفق لأنه يدل على معنيين عظيمين معنى قريب هو الإضاءة الطبيعية للتمكن من القراءة ومعنى بعيد هو ما يستوحيه من حسنها حين يصفو بذهنه وينأى بعقله عن عالم الجمود فيستصحبها نوراً يمشي به في الطرقات !!! وهنا يضيف الحبيب معنى جديداً آخر رائعاً وهو اشتداد الحاجة إلى هذا النور في هذا الزمان المظلم أصلاً في نظره وليس فقط في حالة القراءة أو التحصيل !! وليس هذا فحسب!! فهذا النور له عمق آخر وهو إحداث الطرب في هذه النفس التي قل ابتهاجها وفرحها وسرورها بسبب بعد المحبوب وهنا يعود فيؤكد أنه غير قادر على العودة للدراسة لطلب شيء يحتاجه ابتداء ليعينه على الدراسة نفسها فيوصله إليها انتهاء !!!!! إنها صورة لا يمكن تجاوزها إلا بكثير من الإعجاب !!!

ولو عاد الحبيب للدراسة أو لم يعد، فالامر سيان لأنه كلما يصيح مستجمعاً قواه ليستصحب ضوءه ومصدر سعادته تخنقه عبرة من عبراته !!! وهذه أيضاً فيها العجب العجاب .. أنظروا معي .. كيف تخنقه العبرة ؟ والعبرة استنثار والخنق استنشاق!! وكيف تخنقه العبرة ؟ والعبرة اندفاع إلى الخارج والخنق اندفاع إلى الداخل !!! وكيف تخنقه العبرة ؟ والعبرة زفير والخنق شهيق!! إنها انتفاضة على المعاني الميتة وتحريك للبحار الساكنة وهز للصخور الجامدة !!!

ثم إنه لم يكن لتخنقه العبرة وكفي فهو يرى أحياناً أنه في حال أشد من الفجيعة بل هو باك في حالة حداد في زمن لا يصلح للحزن ولا للبكاء بل هو موسم للفرح العام !!! وهو مغلوب على أمره يعيش صراع الهم وتلاحقه صورة العشق المستحيل !!!

الخوف من المجهول وباب الرجا المقفول

في أوجه العزاب والوازع الديني

كل التلاتة معاي اتلموا زادو شقاي

شايل خطاي مرتاب والهم مزازيني

ودمع الأسى المسكوب فوق مقبرة محبوب

والعيد على الأبواب والباكي يعنيني

خلاني بين العود وبين اللحا المشدود

عايش دمار الغاب والسوس حواليني!!!

قولوا لي بربكم ماذا أقول في هذا؟ وكيف أعلق على مثل هذه الحالة؟ أنظر إليه كيف صور نفسه بين ثلاثة مشاهد كل واحد منها كفيل بحبسه في سجن العشق المستحيل وردمه تحت أنقاض الماضي المفزع والمستقبل المظلم !!! الخوف من المجهول ، وباب الرجا المقفول ، والوازع الديني الذي يأمره بالصبر والتسامح ومزيداً من الاحتمال والاحتساب!!!! وها هي هذه المشاهد كلها تتكالب عليه محدثة في نفسه ألماً وحسرة فتتحول هذه الحسرة وهذا الألم إلى بكاء مر ودموع مسكوبة على طلل الحب المستحيل !!! ثم ينتقل بالمشهد المروع هذا من حب مستحيل إلى حب ميت ثم يتحول الحب الميت إلى محبوب ميت في توليفة مدهشة بين المجاز العقلي والمجاز المرسل !!!! وليس هذا فحسب بل يتحول الناعي إلى باك يعنيه ، ثم يصير المشهد كله دموع في أيام العيد !!!! ثم يتحول المشهد مرة إخرى إلى صورة اشد مرارة.. إنه يصير والحالة هذه كحبيس بين لحاء العود الناشف وساقه الممشوقة ثم لم يلبث وهو على هذه الحالة المزرية حتى يحيطه السوس من كل جانب وهو ميت لينال من دمه وعظمه ولحمه إن بقي له من ذلك شيء!!!! ما أروعك أخي الحبيب .. بل وما أروع ما تقول

في سجن كوبر بكيتك يوم عرفت الدنيا سمعة

شفت وجهك بين دموعي بالكضب ما فوقو دمعة

في سبيلك يا أماني عمري راح أحلام وذكرى

عجيب هذا الحبيب !!! أحيانا يرى نفسه قتيلاً يحيط به السوس من كل جانب !! وأحياناً هزيلاً تحيط به أسراب العذاب والضباب من كل صوب وحدب !! وأحياناً سجيناً كسائر السجناء !! ثلاث صور يتنقل بينها من جنب إلى جنب ليفيق من بأسه حين تعذرت السعادة !! فعندما تشتد عليه الوطأة يعد نفسه قتيلاً !! وحينما تخف عنه الوطأة يعد نفسه هزيلاً !!! وعندما تهدأ الرياح وتسكن العواصف يعد نفسه سجيناً !! وهو في أحسن أحواله سجين كسائر السجناء !!!

كان وحيداً بينهم، وهم كثر، باكياً لوحده لأنه ليس من بين السجناء من يشغله أمر هذه العابرة التي بدأت تتكشف لنا بعض أسرارها !!! وهنا نتساءل لماذا بكى الحبيب؟ وماذا أبكاه ؟؟ هل بكي لفراق العابرة، أم بكى من فرط شيء آخر؟

وحدي في كوبر بكيتك يوم عرفت الدنيا سمعة

عجيبة هذه الدنيا في نظر الحبيب، كما هي عجيبة في نظر أبي العلاء :

تعب هذه الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد !!!

الآن يعرف الحبيب بعضاً من أسرار قصته، ويدرك أن الدنيا دار للمظاهر والقشور!!! لا للظواهر واللباب !! دار يحترم فيها صاحب الثراء العريض، ويحقر فيها عزيز النفس المريض !!!

شفت وجهك بين دموعي بالكضب ما فوقو دمعة

هذه صورة لا تضاهيها صورة في الحسن والبهاء!! إنها لوحة بالغة الروعة متناهية الجمال كثيرة الضياء !!!! أنظر .. لم يقل إنه بكى وهي لم تبك !! ولم يقل إنه بكي من فرط دهشته وهي تباكت من فرط بكائه !!! بل رآها بعينين مغرورقتين بالدموع ، ترتسم صورة وجهها على خديه حيث تجري دموع فراقها وهي تنظر إليه نظر المغشي ليس من حيلة أمامها سوى أنها شهدت له شهادة الخجول بأنه صادق في قوله

في سبيلك يا أماني عمري راح أحلام وذكرى

وكأنها تقول له وهي في وسط هذه الدموع المتسابقة إلى وادي الضياع!!!

تظن ابتساماتي رجاء وغبطة وما أنا إلا ضاحك من رجائيا

نسأل الله لك الثبات !!!!!

الحرام يا عابرة ظاهر شرحو ما بيصعب علينا

والحلال طيراً مهاجر ما بيرك يوم في مدينة

وتكره أسرابو المداين والطيور إيمانها فطرة!!

هنا ينتقل الشاعر إلى محطة جديدة وفصل جديد من فصول هذه المسرحية الرائعة الحَبْك والسَبْك، فالمتابع للمقاطع السابقة يجد أن الشاعر بعد أن فرغ من تطريز القصيدة بجميع الفنون والتحف الأدبية النادرة أنتقل إلى شرح مصابه الجلل من خلال مجموعة من المؤثرات الفنية، فبدأ بالاقتصاد، ثم انتقل إلى السلوك والقيم الأخلاقية، ثم إلى المعالجات الاجتماعية، ثم اشار إلى الناحية النفسية، ثم ،وهو في طريقه للختام، عرج على تزيين هذا النص البديع بالحديث النبوي الشريف ليختم القصيدة بمعالجة قرآنية عظيمة الدلالة رائعة المفهوم !!!

وهذه تدل على أن شاعرنا الحبيب يتمتع بقدرات قصصية وشعرية وفلسفية عميقة وعالية المستوى!! فهو يبدأ بالأدب ويختم بالقرءان مروراً بالحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكل ذلك يتم في سرد مشوق وتسلسل متناغم ومعالجات راقية دون ان يكون هناك خلط بين وصل وفصل، أو إيجاز وإطناب ، أو حذف وقصر، بل تأتي القضية في سياق الأديب المتمكن والشاعر المتسامي .

يقول إن الحرام ظاهر مكشوف، مستمداً معناه من قول النبي صلى الله عليه وسلم ” الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات” ثم يؤكد أن هذا الحرام الذي هو بصدده ليس من الأمور المشتبهات!!! بل هو ظاهر لا يختلف على وصفه اثنان !! فياترى ماذا يعنى بالحرام ههنا ؟؟

دون كثير عناء تشير القصيدة إلى ضروب كثيرة من ضروب الحرام التي شدد الإسلام على التحذير منها وهو قد أشار سابقاً إلى بعض هذه الظواهر المحرمة كالنميمة والتجسس ودخول الناس فيما لا يعنيهم وكلها تدخل في نطاق الحرام الذي يصل إلى حد الكبائر في بعض صوره وهو هنا يعيد القصة كلها ليشير إلى حرام لعله من أشد أنواع الحرام عند الله تعالى وهو الظلم!!! فالظلم ظلمات يوم القيامة، وحتى الشرك الذي تغفر جميع الذنوب إلا هو كان من الظلم العظيم !! وقد بين هذه المسألة في عابرة أخرى قائلاً :

يا عابــــــرة حبيتك واسرعت لاقيتك

بالفرحة والترحاب واللهفة في عيني

حباً بلا جـــدوى متعثر الخطــــــــوة

دقيتلو مليــــــون باب من غير يلبيني

مهزوم من الماضي مظلوم وأنا القاضي

كل القضــية عتاب لي حظ معاديني!!!

ما أعظم هذا الشاعر ، فهو وحتى في حالة الاعتراف بالظلم من المحبوبة التي بذل لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت بين جنباته يعود ويرمي بالظلم واللوم على حظه العاثر وليس على حبه العابر!!!!

ثم يمضي في شرح الحديث النبوي الشريف، ولكنه هذه المرة يصور الحلال وكانه طير مهاجر لا يمر بالمدن ولا يغشى طرقاتها . ولا يحب هواء المدن الملئ بثاني أكسيد الكربون وغبار الظلم وحب السلطة والثروة !!! وذلك لقلة الحلال في زمان ينظر إليه من طرف خفي!!! وهذه الصورة من أروع ما قرأت في شعرنا العربي قديمه وحديثه فصيحه ودارجه !! وهي أن يصف شاعر الحلال لقلته وزهد الناس فيه وكأنه طير مهاجر يفقده الناس ما دام محلقاً !!! ويجدونه عندما يحط أرجله على أرض السلوك الإنساني وساحة القيم النبيلة !!! وهيهات أن يكون للمدينة حظ من ذلك وهي تعشق الجاه والمال !!! وهنا نذوق حلاوة المعنى الذي يرمي إليه الشاعر عندما يتبين لنا أنه لا يقصد الحلال مطلقاً ولا الحرام مطلقاً ولكنه يعود للفكرة التي ابتدر بها القصيدة فيلقي باللوم على المدينة التي بهرت الحضارة أهلها فغيرت حياتهم الاجتماعية التي الفوها في الريف العظيم !! وارتفع مستوى معيشتهم فحاربوا الفقراء بدلاً من محاربة الفقر وجاسوا خلال الديار !! وهو شبيه بما قاله أو الطيب المتنبي:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب !!!

لذا يعود فيقول إن الطيور التي لم تجرب المدينة ولم تقف على ما فعلته في قيم الريف وأخلاق القرويين أمثاله ، كما فعل هو ولم تصطدم بواقعها المر كما اصطدم هو ، ظلت على كره دائم للمدينة بسبب الفطرة السليمة التي لا تحتاج إلى تجربة وبرهان !!! وقديما قيل :

فليس يصح في الاذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل!!!

ما الطيور إحساسا صادق تعرف الفجر الحيطلع

صادقي والإنسان مخادع حتى لو كان دابو يرضع

ما الجبال أبت الأمانة وشالا أسع واطي جمرة !!

هنا أستأذن قلمي لأقف تقديراً لهذا الشاعر العجيب فيسبقني قلمي إلى الوقوف إجلالاً وتقديراً !!!! أنظر كيف بدأ هذا المقطع المدهش المشبع بالقيم الإيمانية والعقدية والروحية بما ختم به المقطع السابق وكأن القصيدة كلها تتحدث عن الطيور وليست عن حبه الضائع بين أضابير الظلم الاجتماعي ودواوين المظالم الذي تختفي عندها معالم القضية ويختلط إعراب الظالم بلحن المظلوم فلا يدري القاضي لأيهما يحكم، وكيف يصدر الحكم وعلى من !!!!

فالطيور عالم من عوالم هذا الكون الجميل ليس عندها ما عند الإنسان من عقل عظيم يصنع به المعجزات ويعيث بالارض الفساد أيضاً !!!! ليست الطيور كبني البشر بعضها مسخر للخير وآخر مخلص الإخلاص كله للشر !! ولكنها جميعاً ذات قلوب صافية ,واحساس دافئ !!! ولذلك فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم حينما ضرب المثل في التوكل إنما ضربه بالطيور التي لا تخشى على رزقها من أحد ، فقال عليه الصلاة والسلام ” ولو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا” ولذلك فعندما تعلق الظلم الاجتماعي عند الحبيب بالرزق وطلب العلم كان أقرب شيء في نفسه هو أن يذكر هذه الطيور التي هي كما قال ” احساسا صادق ” ولكن تأتي الدهشة هنا مستفحلة حينما نتساءل : لماذا خصها بمعرفة الفجر “عند طلوعه”ولم يخصها بالضحى مثلما كان المشهد عندما تعلق الأمر بالسواسيو ؟؟؟ هنا تتضح معالم الفلسفة الأدبية والفكرية العميقة عند شاعرنا!! فالطيور ليس لها في هذه الدنيا سوى الترحال من دوحة إلى دوحة بحثاً عن السعادة الروحية والاقتيات البدني !!! هذا كل ما عندها ولها في ذلك محوران فقط محور الانطلاق ومحور الخلود إلى الراحة وبينهما يكون الترحال وجلب الرزق فيتحقق الشبع وتحقق السعادة !!!!! وهذا المحوران هما الفجر حيث الانطلاق والمغرب حيث الركون إلى الاستجمام !! وهنا تأتي القيمة الجمالية لقوله ” احساسا صادق ” لا تعرف الغش في طلب الرزق أو الغش في التجارة في إشارة لما رواه قبل قليل !!! فهي لا تقاتل من أجل كسب العيش ولا تقاتل أبداً إلا عندما يتعلق الأمر بحياتها فقط ولذلك فهي ” تعرف الفجر الحيطلع ” وليس عندها آذان ولا تنبيه كما عندنا نحن البشر !!!

ولكن كل هذا لم يكن ليذكره الحبيب إلا إمعاناً في التلميح لقضيته الأساسية ليأتي ويقول :

صادقي والإنسان مخادع حتى لو كان دابو يرضع

وهنا يهمني كثيراً أن اشير مسألة مهمة، فقد يتبادر إلى ذهن بعض القراء أن الشاعر يسيء إلى بني البشر جميعهم بقوله إن الإنسان مخادع ، ولكن الذي يتأمل البيت السابق ويقرنه باللاحق يتبين له أن خداع الإنسان هنا ليس مطلقاً وإنما هنا جاء في السياق لانه يعقد مقارنة بين الإنسان والطير !!! وهو يعنى أن الإنسان لديه المقدرة على إعمال الخير كله أو إنفاذ الشر كله حتى ولو كان صغيراً لأنه مكرم بالعقل !!! ولذلك كنى بالرضاعة على المبالغة في الصغر!!! وهو صادق في هذا لأن العقل الذي صنع الطائرة التي تقل الركاب من بلد إلى بلد هو نفسه العقل الذي صنع الطائرة التي تقل الرؤوس النووية لتدمير البلاد بلداً من وراء بلد !! وكل هذا والحبيب يود أن يقول :

ما الجبال ابت الأمانة وشالا أسع واطي جمرة

وهنا تكتمل الصورة الإيمانية والعقدية والروحية ونحن على مشارف الختام في إشارة صريحة لقول الله تبارك وتعالى ” إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فابين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً “

ولا اظن أن الحبيب قد ذكر هذه الأية إلا لغرض في نفسه صرح فيه بما لا يريد ليدل به على مايريد !! ولذلك فقد ذكر الأمانة التي عرضت على الجبال وهو يقصد خلاصة مفهوم الآية من أن الإنسان ظلوم جهول !!!! وهو ما قاله في البيت السابق عندما استخدم عبارة مخادع ، وهي ما يعنيه في سائر قصيدته وفي المقطع القادم الذي ينهي به هذه المأساة في واحدة من أبلغ ما عرفته المنطقة من قصائد وكلمات !!!!…. فما أجملك وما أصدقك وما أروعك وأنت تخرج كل هذا الكلام من كل ذلك الصمت!!!!

ماضي في دنية عنادو اليفوت كان فيها ينفع

مهما كان ادراكو واسع عابرة ما علم الله أوسع

شوفي كيف روعة جلالو لما قال للأمي إقرا

يمضي شاعرنا في ختام هذه القصيدة المفردة إلى الخروج بشحنة إيمانية عالية تعينه على تحمل المصاب وتريح ضميره من كتم شيء من شهادة الحق في وجه الظلم !!!! ولكنه لا يكاد يفارق تفرده في عرض قضيته بأسلوب خاص يخاطب به العموم !!! أنظر إليه يتحدث عن محبوبه وكأنه غائب وتخال أنه يكلمك أنت فإذا اشتد الموقف ضراوة عاد فخاطب محبوبه وأنت تسمع !!!

ماضي في دنية عنادو اليفوت كان فيها ينفع

ثم انظر كيف جعل لعناد محبوبه “دنيا” يتبختر فيها كيف يشاء وقد حرم نفسه هو من دنياهو الواسعة إن لم تكن هذه العنيدة متربعة فيها !!!!

عابرة مشتاق لي عيونك وحاجبا المرسوم هلال

عابــــرة كل الدنيا دونــــــــك تافهة والأيام تقال!!

وهل يستطيع المحبوب أن يعيش بمعزل عن حبيبه كما يظن ؟؟

يا عابرة حتلاقي لو في العمر باقي

عالم دروبو صعاب في تيهو تطريني

عالم من الدهشة يلقي بظلاله ههنا !!! فالجفاء الذي وقع لا مبرر له في دنيا الحبيب الممتلئة برحيق هذه العابرة، والمزدحمة بحبها ودلالها!! فالعناد أمر موقوت .. وعالمها من دونه طريق محفوف بالمخاطر كما هو أيضاً كل الدنيا من دونها لا تسوى عند شيء وكانه يستلهم قول الشاعر:

فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها

ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها!!

لذلك يستطرد فيقول :

مهما كان ادراكو واسع عابرة ما علم الله أوسع

يعود فيخاطبك قليلاً ويقول لك “مهما كان ادراكو واسع” ثم يرى صورة المحبوب أمامه فيخاطبها وينصرف عنك قائلاً لها ” عابرة ما علم الله أوسع !!! ” وكانها هي المخاطب منذ الوهلة الأولى !! هل هذا جنون أم فنون ؟؟ لا أدري !!!!

ثم تجده هنا يستلهم معاني القوة التي تمنحه الدفء والاطمئنان من كتاب الله الكريم .. فعز من قائل يقول في آية الكرسي ” ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ” ثم ثم جل وعلا عندما خلق آدم وعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة قال لهم “أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالو سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ” فسبحان الله القائل ” وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً “

يستمد شاعرنا كل هذه المعاني العظيمة ليستجمع شيئاً من قواه المفقودة، ومن عزمه الضائع، وصبره النافذ، وشعوره المتهالك، وليله الطويل، ليكون في حجم الصدمة ومستوى الحدث!!! ولكن هل كان هذا هو غاية ما يرمي إليه الحبيب ؟؟؟ بالقطع لا !! هو فعلاً في حاجة لهذا الاستلهام ولهذا الاستجماع ولهذا الاستنفار العظيم لكلام الله عز وجل حماية لنفسه من هول الصدمة !!! ولكنه أيضاً يرمي إلى أمر ظل يمهد له في سائر القصيدة وهو ما تبدّى لنا من بعض اسرار القصة !! فهو يريد أن يقول لا تحقروا من المعروف شيئاً ولا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم!!! ثم ابتعد قليلاً وأتانا بالحكمة الإلهية والمعجزة الربانية التي يأمر فيها نبيه الأمي بالقراءة فتجد الأمة نفسها أمام كوكب من العلم والمعرفة !! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه إعجاز الخالق الذي أمره أذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون !!!!

إذن ماذا يريد الحبيب من كل هذا ؟؟؟ هو يضرب الأمثال مذكراً بعظمة الخالق عز وجل ومنبهاً في آن إلى أن الشهادات الأكاديمية والأموال الطائلة لا تجعل من الضعيف قوياً، ولا يحدث فقدانها نقصاً أو ضعفاً في نفس القوى !!! إنه قوي بإعجاز الله لا بالشهادات والأموال !!! وتنتهي هذه القصة العظيمة المدهشة بتلال من الحكمة والموعظة الحسنة والدروس البليغة مبيناً أن عظمة هذا الإنسان الذي خلقه الله وكرمه لا يمكن أن يُنال منها لغرض دنيوي زائل!!! فالنبي الكريم يقول في سياق الموضوع ” إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ” وكفي بعبارة نبينا صلى الله عليه وسلم واعظاً وشهيداً ..

خامساً : نظرة للموضوع من طرف خفي:

بعد أن فرغنا من تحليل هذا السفر المدهش، سفر العابرات الذي سكب فيه الحبيب جميع أنواع العبرات بقي لنا أن نلقي نظرة سريعة على بعض المحاور ذات الصلة بموضوع هذه القصائد :

من هي عابرة وكيف وصفها الحبيب ؟

هذا السؤال لا نريد له أن يكون معنياً بالسيرة الذاتية للمحبوبة التي يطلق عليها شاعرنا اسم “عابرة ” وفي بعض الأحيان “أماني” وإنما نريد أن نسبح في بحره الذي يجري بين السطور فنحمل معنا أطناناً من المعاني التي تركها الشاعر على رصيف الذكرى ومحطات الحزن التي كونت هذا الهرم الشامخ من المفردات والنكهات الطبيعية الخالية من المواد الحافظة، لقصة عاشها الحبيب على أرض الواقع وصاغها لنا بمداد الدموع على وريقات الحسرة !!!!

فعابرة هذه لا يهمنا من هي على أرض الواقع بقدر ما يهمنا من هي على دفاتر الحبيب !!! وكيف عصرت هذا الكم الهائل من الأحزان والذكريات والشجن والمعاناة فاستخرجت لنا هذه العصيرات الطازجة التي أخرجها للناس سائغة للشاربين!!! هي أماني كما يسميها الحبيب في دفاترة وهي أماني كما انعكس واقعها على واقع القصة ولكننا لا نريد أن نعرف عن اسمها أكثر من ذلك ففي كثير من الأحيان تشير الصور البلاغية والجمالية للنصوص إلى أنموذج القصة ولا يهمها من هو اسم بطلها !! وقد فعل ذلك القرءان الكريم وهو أبلغ الكتب في مواضع عديدة من القصص القرءاني العظيم ، فلم يذكر أحياناً حتى اسم بطل القصة ويكتفي فقط بذكر دلالات الحدث!! وفي كثير من الأحيان لا يزيد القرءان العظيم على ذكر الاسم الاول أو الكنية إمعاناً في التشويق وتركيزاً على أصل الموضوع ولك أن تنظر إلى ذكره لامرأة نوح، وامراة لوط، وامرأة العزيز، وابني آدم وامراة أبي لهب وهكذا .

إذن فتركيز الحبيب على أصل القصة دون التركيز على اسم بطلها، في كثير من الأحيان ، والاكتفاء بلقبها الجديد الذي اختاره لها ” عابرة” في أحايين أخرى يدخل في سياق هذه البلاغة العربية المؤدية إلى الغرض دون إشغال القارئ بما دون ذلك ، ولكنه أحيانا يحتاج لاسم البطل ليحيله على معناه اللغوي دون أن يشير إلى ذلك!! فهو يستخدم كلمة أماني للدلالة على حاله هو من خلال معنى هذا الاسم!! ولا يكون في مقصده أن يسميها باسمها حتى ولو كان هذا هو اسمها الحقيقي !!! وعندما يقول “أماني” و”يا أماني” إنما يغلب علينا الظن أنه استخدام للمآل وليس للحال !!!!

يا جعفرية وغالي ماكي متل بنات الحي

فرقك منهن يبقالي زي فرق الظلام للضي

كنت قد ذكرت في مرة سابقة أن الشاعر الحبيب وصف محبوبته وصفاً دقيقاً مشوقاً وكأنه استخدم في ذلك تصويراً الكترونياً متطوراً ، ولكنه فرق ذلك الوصف على جميع شعره الموسوم بالعابرات، ولذلك يصعب تتبع وصف هذه “العابرة” المتميزة إلا من خلال بحث مضن في جميع القصائد العابرة في نظره أيضاً !!! ولعله عمد إلى ذلك عمداً وجعل قصائد العابرات كلها كتاب واحد من فصول عدة وهذه لفتة فريدة لجأ إليها شاعرنا ليحيطنا بجمال محبوبه من خلال جمال شعره !!! وهنا أشار إلى مجموعة من الصفات الشكلية فبدأ بالقبيلة وأردف معها عبارة لتمييزها فوق تمييز القبيلة مما يوحي أن ذكر القبيلة هنا كان بغرض التعريف لا التعظيم ، ثم قفز إلى المعنى الذي يرمي إليه مستخدماً التشبيه المنفي وهو تعبير رائع بمعنى الكلمة !!! ولو تلاحظ أنه لم يقل ماكي زي بنات الحي (وهنا أنا أقصد المعنى لا العروض) فالذي يتأمل كلام أهلنا في الشمال يجد أن أكثر أستخدامهم للتشبيه المثبت يكون بلفظ متل أكثر من استخدام كلمة زي ( وكلاهما يستعمل) ، ولكن التشبيه المنفي يكون غالباً بلفظ زي أكثر من لفظ متل فيقولون “ماهو زيك” ماها زي باقي البنات ” وهكذا وهنا يتبين أن الشاعر في بعض الأحيان يتفادى الاستخامات المستهلكة ليضفي على شعره شيئاً من النكهة والمتعة !! وفي بعض الأحيان يلجأ إلى المفردات الأكثر استخداماً ليضفي على شعره شيء من الغرابة والدهشة!!!!

والتشبيه المنفي أيضاً لغة قرءانية عالية الذوق والتأثير ومن ذلك قول الله جل وعلا ” يا نساء النبي لستن كأحد من العالمين ” ومعروف أن الكاف هنا للتشبيه وقد سبقه النفي .

ثم يميل صاحبنا لتوضيح هذا الفرق بقوله :

فرقك منهن يبقالي زي فرق الظلام للضي

وهنا لاتعليق سوى أنه أكد ما أرمي إليه فاستخدم لفظ زي في التشبيه المثبت !!!

طبعك ماهو زيف والتاني فايتاهن ملاحة وزي

هنا جاء الحبيب ليفصل ما اجمله ويوضح ما أبهمه وييكشف المستور من قوله !!! فهذا الفرق الذي يصفه بفرق الليل من النهار لابد له من إيضاح !!

وكعادته في تصويره للأحداث يتصف شاعرنا بالشمول والدقة في كل شيء وها هو يستقصي أوجه الحسن والتميز الذي جعل هذه العابرة تتفوق على بنات الحي (وهنا لابد من الإشارة إلى أن بنات الحي يقصد بها بنات البلد) الذي في مخيلته، وأي حي !!! فلايقصد حياً بعينه أو بلداً بعينه!! وهنا تأتي بلاغته وبراعته في تنكير المعرف !! ودلائل الحال والسياق كلها تشير إلى ذلك!! فيبدأ بالطبع وهنا يؤكد الحبيب أن الأمر في المقارنة لا يقف عند ظاهر الحال فقط وإنما يتعداه إلى المضمون فيقول إنها أصيلة الطبع مكتملة المحامد جميلة الطباع متفردة السلوك فهي تتعامل بوعي وإدراك وتتفاعل بأدب وحياء وتتسامى بخلق جم ، ثم هي فوق ذلك كله تفوقهن حسناً وجمالاً !!! ولم يقف عند هذا الحد بل هي تتفوق كذلك عليهن في ملبسها ورونقها ، فماذا بقي لهن ؟؟؟

ولماذا شبه الفرق بينها وبين بنات الحي بالليل والنهار ولم يقل السماء والأرض مثلاً ؟؟ هل ذلك فقط من إيحاءات القافية وترنيمات الوزن والعروض أم أن في المعنى عمق آخر؟؟ إن الذي ينظر إلى الإعجاز الإلهي في حركة الكون وإيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، وكيف أنهما يتعاقبان وهما ضدان لا يشبه أحدهما الآخر، تتبدى له قوة وبراعة التصوير في هذا البيت !!! فأحياناً عندما يكون الأمران متضادان يوشك أن يكون الفرق صارخاً والجنس مختلفاً ولكن الذي يرى كيف يعقب الليل النهار وكيف يعقب النهار الليل يدرك الفرق !!! فهنا العلاقة حميمية والاختلاف تدريجي لا يصل حدته إلا آخر النهار وآخر الليل ولذلك فأنت لا تخرج المتضاديين عن اشتراكهما في الكم !!! ولكنك تخرجهما عن الاشتراك في الكيف !!!! وهكذا رأي الحبيب محبوبته فهي ليست من كوكب آخر بل هي من نفس الجنس البشري الواحد ولكن الاختلاف اختلاف درجة ومقدار ولذلك استخدم اللفظة الرائعة “يبقالي” ولم يجزم اعتباطاً !!! فما أروعك وما أعظمك شاعراً وحكيماً !!!

با ضو القمر في النقعة ما ملت رؤاك عيني

يواصل الحبيب وصفه العجيب لمحبوبته العابرة. وفي هذه المرة ينحو شاعرنا منحاً عجيباً يصف فيه المحبوبة وكأنها لوحة أضفاها البدر في ليلة تمامه على ماء النيل العذب في لحظة سكون وساعة صفاء، حيث تقل الحركة وتنقطع الأرجل وتهدأ الرياح فتصفو مياه النيل ويُخلّف هذا القمر البهيج صورة بهية على سطح الماء ويكون مع حركة الماء دوائر تتألق في شكل ساحر عجيب !!! ثم يدهشك هذا الشاعر فيتنقل بالمشهد من حالة التشبيه الضمني البديعة إلى حالة أشد براعة فيُخيّل إليك المحبوبة وكأنها ليست مجرد صورة للقمر مرسومة على سطح الماء الصافي وإنما يضع المشهد كله في تشبيه مقلوب يضعه بحذق على ذلك التشبيه الضمني فيقول إن ضو القمر على النقعة هو الذي يشبه المحبوب!!!! ولذلك يقول “ما ملت رؤاك عيني” !! وهنا يشير إلى مسألة ثالثة أكثر ألقاً وسحراً وهي أن الشاعر يذهب في كل ليلة إلى نهر النيل ليرى محبوبته من خلال هذا المشهد البديع!!! ثم يضيف لنا بعداً جديداً يفوق به على كثير من الشعراء الذين يسهرون الليل ويضيعونه في عداد النجوم وفي التحول من جنب إلى جنب ومن شق إلى شق فيخرج من هذا المشهد الذي تكرر في أشعاره وأشعار غيره كثيراً إلى معنى آخر رفيع بديع يصف حاله فيه بأنه لا ينام على فراش ولا يعد نجوماً بل يذهب إلى النيل الصافي في منتصف الليل وعند بزوغ القمر التام فيراقب هذا المشهد بنفسه ولا يكاد تمل عيناه نظرة ساعة أو جانب الليل كله !!!! فيرقب القمر وهو يغازل الماء وكأنه يسامر “عابرته” وهو يتأمل هذه الصورة البديعة!!!! . ويمضي ليؤكد هذا المعنى الذي ذهبت إليه فيقول في البيت التالي :

أعاين فيك بعد الهجعة كم تاهت خطاي في مشي

ثم يفيق من دهشته ويجد نفسه وحيداً بعيداً شريداً طريداً وهو على نهر النيل ليست هناك من عابرة ولا عابرة ، إلا المراكب الشراعية وبعض طوفان يحمله الماء إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس !!!!! إنها صورة تربو على الاحتمال !!!! ولذلك يصيح لعابرته الحقيقية التي استيقظ من غفوته فإذا هي بعيدة المآل صعبة المنال

فيقول :

لو بقدر أطير يا عابرة ما ببخل عليك جنحي

وفي الجو العسير بالجابري بمشي الباقي بي كرعي

صورة أكثر عجباً وأبلغ تصويراً !!!! أنظر أليه أيضاً بعد أن عرف الحقيقة وكشف عن سر وحدته تخيل أنه لو كان طائراً لما تواني في الذهاب إليها في مظانها !!! ثم يتخيل أنه طائر بالفعل إلا أن الجو صعيب الملاحة فيبدى حسن استعداده للمشي دون خوف من مسافة أو وجل من طريق !!!!

هذه هي عابرة التي يعشقها الحبيب ويبذل الغالي والنفيس في سبيلها وها هي صورتها التي يراها بها بكل ما تحمل من جمال طبع وحسن تطبع !!!

كيف وصف الحبيب نفسه في إطار هذه العلاقة؟

الحبيب الذي وصف محبوبته فأطال وأجاد، ووصف حالها فأبدع وأمتع، لم يفته أن يصف نفسه المشوقة المتلهفة المكتوية بنار الفرقة وصعوبة الوصول إلى عابرة بأدق اساليب الوصف وأبرع عبارات الحنين والشوق في تناغم عجيب وتصوير دقيق

ما قادر أقول أشتقت خايفك ما تقولي أفي

وقبل أخوض في تفصيل وشرح هذه الحالة العجيبة أود فقط أن أنبه إلى نوع القافية المتفردة جداً في هذه القصيدة والتي دفعت الشاعر الحبيب لاستخدام مفردات لم تكن مما اعتاد الناس على أستخدامه في الشعر الدارجي رغم أنها مفردات ممعنة في المحلية ومن هذه المفردات (أفي) (جيدلي) (سي) (حمبي) (طي) (أي) (شي) (كرعي) (الني) (الصي) (حولي) (تي تي) فهذه المفردات جميعها ليست شعرية على العموم ولم نعتد على سماعها عند شعرائنا، وكان من الممكن أن تقابل باستهجان لو لم تكن قد استخدمت بهذه المهارة المدهشة، وفي سياق هذه المعاني الممتلئة حسناً وجمالاً، والممزوجة بعطر الحنية ورحيق الشجن !!!

ومثلها تلك المفردات التي استعرضناها في النص السابق “كالسواسيو والجزارات والضجيج” وهكذا فكلها مفردات كان من الممكن رفضها لو لم تكن قد استخدمت بهذا التفرد وهذه البراعة !!! وهذا يذكرني بما قاله النقاد قديماً من أن عناصر البلاغة لفظ ومعنى وتأليف للألفاظ يمنحها قوة وتأثيراً وحسناً ثم دقة في اختيار الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعاته وحال السامعين والنزعة النفسية التي تتملكهم!!! وقالوا رب كلمة حسنت في موطن ثم كانت نابية مستكرهة في غيره، وكرهوا من ذلك كلمة “أيضاً” وعدوها من ألفاظ العلماء فلم تجر بها أقلامهم في شعر أو نثر حتى ظهر فيهم من قال :

ولقد تشكو فما أفهمها ولقد اشكو فما تفهمني

غير أني بالجوى أعرفها وهي أيضاً بالجوى تعرفني

فقالوا انه وضع “أيضاً” في مكان لا يتطلب سواها ولا يتقبل غيرها!! وكان لها من الروعة والحسن في نفس الأديب ما يعجز عنها البيان . وهكذا أخال أخي الحبيب ، فهذه الألفاظ قوية وهي ضعيفة في غير هذه المواضع، ولطيفة وهي مستوحشة في غير هذه المعاني، ومؤثرة وهي مرفوضة في غير هذا السياق !!!!

وعوداً على بدء فالشاعر يتحدث بلغة مزدوجة تتكون من خشونة القرية ولين المدينة !! أنظر هو يخشى فقط أن يقول “اشتقت” فيجد استغراباً ولكنه استغراب لين ورقيق !!! لذا استخدم كلمة تجمع بين رفض القرية ورضا المدينة!!! وسرعان ما ينطلق ليصف حاله الذي هده الشوق وهدهده الغرام!!

لي شوقي اليبس واتحت نار الشوق تقول جيد لي

توقد للصباح نار هادي كم شوت الجوارح شي

من اعماقي حزني ينادي يرجع في غناي تي تي

أي جمال وأي عمق وأي بلاغة هذه التي تحملها هذه الأبيات!!!! انظر كيف يدرّج الحدث وسرعان ما يتحول الخيال الجامح عنده إلى واقع يلمسه بيديه وكأنه قرطاس!!! ويحسه بجسده وكأنه وخز بالإبر!!! فهو يشبه الشوق بأوراق الشجر ثم يرتب عليه كل ما يرتبط بهذا الورق من خواص، فإذا به يصدق خياله هذا ويحسب أن شوقه قد جف وتساقط فعلاً في نار هادئة تأكل جسده وتنتشر فيه كما تنتشر كعادتها في الهشيم ثم تقول هل من مزيد !! مستخدما العبارة الرائعة (جيدلي) !!! وإذا به وهو في جوف النار يصيح الحزن في جوفه فيرجع صدى هذا الحزن نغماً ولحناً يتغنى به الناس ويطربون ويسعدون على أنقاض جسده المحترق !!!! إنها فكرة تتحدى الدهشة وتهزم الخيال!!!

أطياف تجيني خيال خيال همس السواقي يجي ويروح

غرقان أشابي على المحال من قلبي ما داير النزوح

زي شتلة في حلق الرمال دار يبلعا الزحف الطموح

ماني البراي على كل حال كل المخاليق تندفن

وهذه لوحة أخرى تصف حالة شاعرنا ولكنها من نوع خاص !!!! حالة يفصل فيها خيط رفيع بين الموت والحياة !! وحياة تتأرجح بين الرغبة في “البلد” والرهبة من الموت المجازي حين تلوح المدينة بالرفض والعناد!!!! وموت فعلي يخشى أن يتخطفه وهو حبيس هذه الأحلام يتقلب بين هذه الآلام!!! فيعود ويطمن نفسه بأن كل نفس ذائقة الموت !!! ولكن هذا المقطع يشير أيضاً إلى صورة بديعة لم نكن نألفها إلا من خلال قلم هذا الشاعر العجيب الذي تدفعه المفردات إلى المعاني وليس المعاني إلى المفردات!!!! هذه الصورة المعكوسة يندر أن تكون ديدناً لشاعر أو عادة لكاتب أو ناقد ولكنها في شعر الحبيب اصبحت علامة مميزة ولوحة متفردة !!

يذكرالسواقي فيتذكر النيل … يتذكر النيل … فيلوح له الغرق !!! يتذكر الغرق والنيل فيتحول مشهد الماء هنا إلى شتلة تبتغي الماء من أجل الحياة !!! ثم يتمثل بالشتلة فتتجسد امامه لوحة قريته أوسلي ذات الرمال الكثيف وكيف أنها تحيط بالشتول في مشهد بديع فيتذكر الزحف الصحراوي القاحل الذي يغتصب الخضرة ويخترق الجمال ويقتل الفرحة !!!! وعندما تكتمل هذه اللوحة البديعة في مخيلته يصيح في دواخله قائلاً هذا أنا هذا أنا !!!!! إنه يجمع بين العبقرية والجنون !!! والحكمة والشجون !!! فهو شعلة من الفنون !!!

ساكت والكلام مجان سكاتي ولا الكلام الني

والبلقا الضيوف فرحان بليلتو ولا ضبائح طي

هنا ينتقل بنا الشاعر إلى لوحة يحيط بها الإبداع من كل جانب !!! هذا الشاعر عجيب في تحوله، غريب في تصوره، مدهش في تناوله للمعاني التي ينشدها !! أحياناً يأتيك من جهة لم تكن تتوقع مجيئه منها، وأحياناً يحول الأبصار لأمر لم يكن يقصده، وكثيراً ما يحدثك عن شيء وهو يقصد غيره، ومع ذلك فهو يظن أن كل هذا الشعر الذي بين أيدينا لم يكن كافياً لطرح قضيته وكشف سره ، ولذلك يعتبر أن هذا الكلام كله ضرب من ضروب الصمت !!!! ألم أقل لكم في اول البحث أن أسراره لا يمكن الوصول إليها وأن عجائبه لا تنقضي ؟؟؟

ساكت والكلام مجان سكاتي ولا الكلام الني

يقول لنا الشاعر أن جميع ما قاله لم يتجاوز خط الصمت ولم يكن ليمثل ما يعنيه من الكلام في شيء!!! وصمته هذا ليس عجزاً فالكلام ليس بالمال فيقعده المال عن الحصول عليه مثل أشياء أخرى يحول المال بهجتها إلى حسرة وضوءها إلى ظلمة !!! ولكنه لا يريد تلقاء نفسه أن يقول كلاماً لا يشرح أسراره ولا يفك طلاسمها!!!! فيقول سكاتي ولا الكلام الني ، مستشعراً المعنى العظيم الذي وجهنا إليه نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت” فهو إذن ساكت لأن كلامه كله ني مادام لن يوصلنا إلى كشف أسراره !!!! وسبر أغواره !!!!

وهنا لابد لي من الإشارة إلى أن السكوت الذي ذكره مرتين بما يشبه النكرة والكلام الذي ذكره مرتين من جهة المعرفة إنما كان له دلالة عظيمة !!!! فالمعروف في لغة العرب أن المعرفة إذا تكررت فتكون بمعنى واحد وأما النكرة إذا تكررت فتكون بمعنيين!! ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لن يغلب عسر يسرين ” في إشارة للآية الكريمة ” فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً ” فجاءت اليسر نكرة مرتين لتعني معنيين وجاءت العسر معرفة مرتين لتعني معنى واحد ” !!!!!

والبلقا الضيوف فرحان بليلتو ولا ضبايح طي

وهنا يعود الحبيب لاسلوبه العجيب فيتذكر الكلام المجاني فيقول وحتى إذا كان الكلام يشترى وعجزت عن شرائه فيكفي أنني اقابل الناس هاشاً باشاً ولا أكشف لهم عما يسوءني وهنا يتذكر المثل السوداني ” بليلة مباشر ولا ضبيحة مكاشر” فيتمثل به ويقول لمعجبيه ” لا ينسب لساكت قول ولكن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان” !!!!

ولذلك فهو يدفن حزنه تحت سبع أرضين ولا يريد له أن يظهر في وجهه ليقوم استقباله وبشاشته مقام كلامه حين تعذر الكلام الذي يعيننا على كشف تلك الاسرار!!!!

ما اروع هذه اللوحة الصاخبة المليئة بمعاني الجمال والحكمة !!!

أه الماضي لو يرجاني كت بطوي البوارح طي

وانزح بي عطش وجداني كان ترويني قولة آي

بي شوقي المضارع جاي أمرك ما مرق من ايدي

وكل الماضي كان في رايي ماهو من الضجيج في شي

وفي ختام هذه الحالة الرائعة شعراً والمروعة زماناً ومكاناً والمريعة سبباً ونتيجة !! والتي حولت الجسد إلى غريق تعبث به الأمواج والصبر إلى ورق يابس تهزأ به النيران والشوق إلى شتلة تتحرش بها الرمال وكل ذلك مصحوب بخوف من ذكريات تطارد ومستقبل يمانع وحب يخادع!!! يعود شاعرنا مستجمعاً نفسه ومستصحباً الأزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل ومستخدماً جميع أفعال اللغة العربية ماضيها ومضارعها وأمرها يصحبه في ذلك بعض حروف الجر وحرف الامتناع وما النافية ليستعيذ من الشيطان الرجيم ويقول لنفسه ومن صحبه من أصحاب الوجعة إنني لا أزال بخير ولا أزال تفاءل ولا زال هناك بعض أمل يضيء مع البرق وحلم يصيح مع الرعد ودمع فرح يسيل مع المطر !!!!

فها هو يصرح بعد صمت طويل، ويلوح بعصا فرح قريب أن الأمر لا يزال تحت السيطرة!!!!! وقد استوقفتني كلمة البوارح فتأملتها طويلاً وقلت هل قصد الحبيب جمع “البرحة” التي هي بمعنى المسافة ام قصد جمع “البارحة” التي هي بمعنى الماضي وخاصة أنه يتحدث عن الماضي؟؟ فتلعثمت حيناً وكدت استهجنها لولا أن وضعها الشاعر بين قوسي هذا المفعول المطلق العجيب الذي يشير فيه إلى إعمال قدرات خارقة يستعين بها ليطوي صفحات الماضي الذي حال بينه وبين المحبوب أو يطوي المسافات التي فصلت بين القرية والمدينة طيا!! فلم ازل مندهشاً ومعجباً ومطرقاً !!!!!

سادساً: الصور البديعية :

هذه القصائد التي يسميها الحبيب “بالعابرات” لم تكن قصائد عابرة ولا الحدث الذي تتحدث عنه عابراً إلا بمنظوره هو وبفلسفته هو ، فهي قصائد غارقة في العمق والإبداع !! وكلاهما لا يعترف بالعبور !!

وهذه القصائد كلها جسد واحد إذا أشتكي منها بيت أو ربما مفردة تداعت له سائر الألفاظ والمعاني بالشرح والتوضيح فلا يمكن للناقد أو القارئ أن يضع مقطعاً قبل مقطع ولا بيتا قبل بيت ولا ربما لفظة قبل لفظة!!! فهي سياج محكم القواعد متجانس القواطع متشابه القسمات!!

والقصائد هذه التي تناولناها وألقينا عليها بعض قبس هي لوحة فنية متكاملة مليئة بالحركة مختلطة بالجمال ، فهي تصور الأحداث كما وقعت على الأرض بدقة عالية ومهارة بديعة فلا تكاد تمر عيناك على مشهد إلا وهو كامل معبر عن نفسه كأدق ما يكون التعبير .. وكأصدق ما تكون العبارة !! وليس بمقدورنا ههنا أن نقف معلقين على كل لمحة فن، أو لمسة جمال، بل بمقدورنا فقط أن نقف عاجزين في كثير من الأحوال أمام هذا المرجان الذي يبهر العيون ويأسر القلوب !!! وسنكتفي ببعض الإيحاءات البديعية فجزء يسير من هذا الجمال يكفي لإضاءة المشهد كله.

أنظر أولاً للجرس اللفظي في تكرار السين في قوله “سواسيوك” و”أسوقا” وتكرار الحاء في “الضحى” و”الحلق” و”حديو” … وهي صورة شبيهة للجرس الذي ساقه أبو الطيب وعلى نفس نسق الحروف.

سما وحمى بني سام وحام فليس كمثله سام وحام

ثم أن هذا البيت يقوم على مفهوم الاستفهام التعجبي أنظر التعجب هنا !! كيف سواسيوك اسوقا؟ ولماذا لا يستطيع؟ الإجابة تكمن في الضحى الحلق حديو؟!!

 

ولك أيضاً أن تتأمل هذه العبارات لترى بنفسك روعة الجرس وبراعة التناغم في”جزارات” و”زيو” “وفيها كل المافي” !!!! ثم أنظر إلى الطباق في عبارة”فيها كل الما في زيو!!!

ثم تأمل معي أيضاً تكرار القاف والراء والألف بتناغم رائع وجرس بديع في”لاقدرت” “ولاني قادر ” “أرجع أقرا”

أنه شيء مدهش وجمال لا ينقضي وحلاوة لا يفسدها الملح ولا الماء!!!

كما واننا أمام قطار من المفردات التي تمضي سريعاً ويتبعها نغم متفرد لا تكاد تسمعه إلا فيها ( اقرا أيه من غير عيونك!! انظر كيف يحول القاف إلى غين ثم يحول الغين إلى عين !!! ولك أن تتخيل كيف توسطت الغين في النطق والشكل بين حرفين بعيدين كل البعد ولكنها حملت سماتهما فأوحت بهذه اللوحة الرائعة !!! ثم انظر ” وشح في الروح ابتهاجا” كيف اردف الحاء بالحاء ليعطي نفثاً جمالياً للجيم في ابتهاجا!!!!ثم لك أن تنظر بطرف العين إلي “كلما أصيح” وفي الصياح” ” ياعابرة” عبرة”!!!!

ولك أن تنظر هذا الجرس العجيب في هذا البيت وهذا التناغم والتناسق الذي تعكسه العين والغين والقاف أيضاً !!!

من أعماقي حزني ينادي يرجع في غناي تي تي

كما لا يفوتنا ونحن نتأمل هذا النص العجيب أن ننظر إلى الطباق في كلمتي الظلام والضي والتورية في أمرك ما مرق من ايدي .

وغير ذلك كثير وكثير .. ولكن حالي كالذي ألقى بقمح في الغرابيل !!!!

هذه المقالة كُتبت في التصنيف غير مصنف. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.